أخبار الساعة » فنون وثقافة » ابداعات ادبية

في حوار مع شرفات محمد شمس الدين

- ادريس علوش

في حواره مع شرفات

 :محمد شمس الدين

الشعر لا يزال على عرشه وسط عروش أخرى

 08 سبتمبر 2010

حوار: هدى الجهورية - بيروت
النشأة والقراءة المتنوعة، هي ما جعلت الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين يكتب قصيدة حرة في الصيغة والشكل والمعنى، فهو شاعر يقف ضد الصراع القائم بين أشكال القصيدة المختلفة، ويعد الأسلاف خدما في بلاط الشعراء الجدد، «إما أن يقتلوني حين أقلدهم، أو يخدمونني حين احتوي السابق في خدمة اللاحق وليس العكس»..
تنقّل بين القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحديثة، بين كتابة الحكم والأمثال وكتابة القصص القصيرة، وانتصر دائما للإبداع الشعري الذي يراه أهم بكثير من الحركة النقدية..
ولد الشاعر محمد علي شمس الدين في بيت ياحون، وهي قريةٌ تتاخم شمالي فلسطين، عام 1942، ودرس الثانوية في بيروت، ثم حصل على إجازة الحقوق من الجامعة اللبنانية عام 1963، وبعد ذلك تحوّل إلى دراسة التاريخ حتى حصل على الماجستير في مادته.
لديه العديد من المجموعات الشعرية منها: «رسائل مهربة إلى حبيبتي آسيا»، «الغيوم التي في الضواحي»، «ممالك عالية»، «اليأس من الوردة»، كما صدرت للشاعر الأعمال الشعرية الكاملة في مجلدين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إضافة إلى كتاب نصوص بعنوان «غرباء في مكانهم» عن الدار نفسها.

• ثمة تحولات هائلة أصابت قصيدتك.. من القصيدة الكلاسيكية إلى السيولة اللغوية، وتناسل الصور، إلى قصائد النزق الشعري، ثم قصائد الحداثة، و قصائد الحكمة..؟

بدأتُ بكتابة القصيدة الكلاسيكية، وفي الوقت نفسه كتبت بعض الجمل المكثفة والمركزة، كأمثال وحكم. كتبتُ القصة القصيرة باكرا، ثم كتبتُ القصيدة الحديثة التي أتت لتعكس صورة عن داخلي، ذلك الداخل الذي يتماس مع ما يحيط بي من عناصر الطبيعة في الجنوب اللبناني، وما يتفاعل في نفسي من أحاسيس بعضها غامض.

قراءتي المبكرة قامت على قراءة المعري، التوحيدي، وألبير كامو، يضاف إلى ذلك التماس مع تجارب تشكيلية كثيرة عربية وغربية. هذا التنوع في النشأة والقراءة، والتركيب النفسي المتنوع والمتداخل جعلني أكتب قصيدة حرة في الصيغة والشكل والمعنى.
باكرا تولد لديّ هذا الإحساس بالحرية، فكتبتُ ما أريد، كما أريد، ولم أخضع كثيرا للنظريات النقدية التي أعرفها في شكل القصيدة.
أنا ضد ما تمّ افتراضه من صراع بين القديم والحديث. كتشنج الحداثيين تجاه من قبلهم. شاعر روسي كان يقول: «ما حاجتي لساق ميتة في جسد حي»، على اعتبار أن كل ما مضى مقبرة، وهذا خطأ فاحش في حق الشعر والمعرفة أيضا.
المفكرون والفلاسفة الغربيون، بالذات في ما بعد الحداثة (postmodernism) من مثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، يُبينون من خلال دراسات لغوية وانتروبولوجية أن القديم لا يموت بل يتحول، وكل إضافة هي تأويل للماضي.
هذه المسائل أدركتها لاحقا.. أن التراث متطور، وليس مقيدا. من هنا لم تشكل قصيدة النثر أمامي حاجزا للكتابة. فأنا قد أكتب الوزن لآخر القصيدة، وقد أكسره حتى آخر عظم.
كل هذا التنوع يبدو مشابها لرحلة النحلة التي تطير لمئات الأميال من أجل قطرة من العسل، فكل ثقافتي هي من أجل كتابة حرف واحد في قصيدة، والقصيدة تستحق أن نفعل ذلك لأجلها.

• تعترف دائما أنك شاعر غير مدرسي، وصاحب تجربة مركبة؟

تحولات الحياة نفسها إضافة إلى المكسب الحياتي الدائم والمفتوح هو سبب تنوع مادتي الشعرية. كان هنالك نزق في مجموعتي الشعرية (قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا)، كأني أغامر على حصان متوحش في معركة، هذه اللغة المفترسة غير المروضة، هي لغة المراهقة التي لا تحسب حسابا لشيء، كالعاشق الذي يرمي نفسه إلى الحب أو إلى الموت.. هذا أجمل الطيش يأكل التفاحة من دون أن يفكر بالخطيئة.

جئتُ في زمن عبد المعطي حجازي، سليمان العيسى، جبرا إبراهيم جبرا، أمل دنقل، نزار قباني، والبياتي..ثم بدأتُ الصراع الشرس مع اللغة في تجاه تكاثر المعاني في النفس، وتناقضاتها وغموضها مقارنة باللغة التي أكتب بها.. كل هذا جعلني أتجه إلى نمط آخر من التعبير باطني وسري. صارت الكلمات أقل من «الحال» التي أصفها..كلمات مكثفة ومختزلة، بعدها دخلت في مرحلة تالية في صراع بين الحال والمقال، وكما قال ابن الفارض: « فكان ما كان مما لست أذكره، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر».

• بعد مجموعاتك الشعرية، وكتبك النثرية، وعمر طويل من الكتابة.. ماذا يعني لك فعل الكتابة اليوم؟

القصيدة هي الحياة. بل أقول إن القصيدة بالنسبة لي أهم من الحياة. فماذا أساوي أنا بدون الشعر؟ الشعر أهم من الحياة لأنه يحقق للشاعر خصوصية الخلق. الشاعر لا يُقلد الخليقة أو الطبيعة بل يبتكر خليقة أخرى بالكلمات.. هذه هي أهمية الشعر وخطره في آن. وقد قلتُ ذات يوم أن ما ينقص الكون هو الكلمات وبالكلمات نكمل الكون.
الحدس الشعري وحده لا يصنع الشعر، بل يصنع الزجل، والموهبة لا تكفي، وإن كانت ضرورية. أنا أرى أهمية العلم والتاريخ فكيف لنا أن نغض الطرف عنهما!

• كيف يستفيد الشعر من المعطى الثقافي؟

لا بد من المعرفة، وخصوصا معرفة التاريخ بالمعنى الشامل. علينا أن نعي أن الشعر يبدأ من حيث ينتهي التاريخ. فإذا كان التاريخ هو الحطب، فإن الشعر هو النار، والنار ليست الحطب ولكنها بنت اشتعال الحطب.
الشعر ليس التاريخ أو المعرفة، بل هو نارهما معا. الشعر خطير. الشعر سبق العالم، لذا ليس من الغريب أن يقع المؤرخ والعالم والفيلسوف في حسد الشاعر.

• هل ثمة من يقع في حسد الشاعر إلى زمننا هذا الذي يحسب لصالح السرد؟

في ندوة مشتركة في الكويت، تحديدا في عيد مجلة العربي قلت لـ د.جابر عصفور، الذي كان يقول بأن زمن الشعر انتهى، وأن الزمن اليوم هو زمن السرد: « لماذا تضع الشعر في مقابل الرواية، وليس هنالك صراع حقيقي بينهما؟»
جبرا إبراهيم جبرا كان أقصى همه أن يكون شاعرا، والأديب السوداني الطيب صالح قال: إن كل بيت من الشعر يختصر آلاف الصفحات من الرواية. عبد الوهاب البياتي على سبيل المثال قال: «أبحرت السفن/ ما كان لم يكن».. بقليل من التأمل: ماذا يمكن أن تقول هذه الكلمات المكثفة والمختزلة من حكايات طويلة!
وأهم ما كتب الروائي الراحل نجيب محفوظ كان هو آخر ما كتب، وهو شعر اسمه «أصداء السيرة الذاتية» ملخص شعري للعالم الروائي، يُقدم بكلمات شعرية عناصر رواية بكاملها، بطلها اسمه عبد ربه التائه.. الكتاب عبارة عن: مختزلات صوفية ذات لُمع شعرية.

• بماذا أجابك د. جابر عصفور، وقد قلت ما قلت أمام جمع غفير من الشعراء والكتاب والإعلاميين؟

صمت قليلا ثم قال عصفور بهدوء: «عندك حق..سأعيد النظر».
يجب أن تستجيب الفنون كلها لنبض العصر، ولكن هذا لا يعني الصراع، وإنما محاولة التكامل فيما بينها.
برأيي الشخصي من ناحية كمية ما يُقرأ من الشعر، فإن ما يُقرأ منه عبر الإنترنت أكثر بكثير مما يُقرأ من الروايات. الرواية الحديثة على أهميتها وعظمتها خدمتها تقنية مهمة، ونقلتها إلى العالم، أقصد تقنية السينما، بينما الشعر يخدم نفسه، ويخدم الرواية والسينما والتشكيل والمسرح والإنسان. أنا لا أرى صراعا بين الشعر والرواية، وإنما أرى تكاملا كما ذكرت سابقا، لذا أقول دائما: كان الشعر ولا يزال على عرشه إلى جانب عروش أخرى.

• إذا لم يكن السرد هو أزمة الشعر، فما أزمة الشعر إذا؟

يقال إن الشعر في أزمة، ولكن ليس بسبب الرواية بالفعل. لدى الغرب الشعر هو زهرة اللغة، التعبير الكثيف والرمزي عن الواقع في كلمات تُقرأ.
التطور التكنولوجي المعاصر أوجد أدواته في السرعة والضوء، فكانت السينما الفن السابع هي الأولى بين الفنون التي استطاعت أن تؤثر على كل الفنون الأخرى لأن الفنون (السمعية البصرية) تدخل إلى بيوتنا، بينما الشعر يحتاج إلى قراءة وتفكر، فهو ليس مادة ترفيهية عابرة..لذا أصبح الشعر صعبا في هذا العصر.
الشعر الذي كان وحده فن الفنون، ظهرت بعده القصة والرواية والمسرح، والفنون الأخرى، لذا أصبح فنا من جملة فنون. لذا لا يستمتع بالشعر إلا من له به مزاج خاص.
دخل الشعر في حصار كبير من خلال التطور نفسه الذي ساهم بتوصيل مادة الشعر إلى أكبر عدد من القراء أعني: مواقع الشعر في الإنترنت. لكن بالمقابل علينا أن لا ننفي أن الشعر المعاصر تسرّب إلى كل الفنون، وخدمها.

• ما تعليقك على قول الروائي والشاعر السوري سليم بركات: «نحن جيل بلا أسلاف»؟

من قال أننا جيل بلا أسلاف؟. لقد استفاد أدونيس من الشاعر سعيد عقل، وسعيد عقل استفاد من أسلافه الشعراء.. البحتري والمتنبي إلى امرؤ القيس. السؤال يطرح هكذا: هل نحن أبناء يقفون وراء آبائهم، ويحملون خناجر وراء ظهورهم؟
والجواب: الأسلاف خدم في بلاطنا. أنا لا أخدمهم بقدر ما يخدمونني. فالمسألة تقاس على الشكل التالي: إما أن يقتلوني حين أقلدهم، أو يخدمونني حين احتوي السابق في خدمة اللاحق وليس العكس.

• هل أخذت التجربة الشعرية العربية حقها من الدراسة النقدية؟

أخذت بعضا من حقها، لجهة بعض المرافقات النقدية للشعر، على سبيل المثال في مجلة شعر، ومجلة آداب، وفي بعض الكتب لبعض النقاد، كالناقد والمحقق إحسان عباس، والناقدة الفلسطينية سلمى الخضراء، بالإضافة إلى المواكبة الأكاديمية، والأبحاث والأطروحات الجامعية التي سلّطت أضواءها على بعض التجارب الجديدة في حركة الشعر الحديث.
ولكن برأيي الإبداع الشعري أهم من المتابعة النقدية، كما أنه بالمقابل ليس لدينا قامات نقدية توازي الحراك الشعري في الوطن العربي.

• لماذا لا يوازي النقد الحركة الشعرية؟

النقد الأدبي والشعري جزء من العقل العربي، بمقدار ما هو جزء من الفن. وبما أن العقل العربي متخلف الآن، فكل نقد عربي متخلف، لأسباب من بينها حصار الحريات، والقصور المعرفي، والتخلف العلمي.
العمارة النقدية جزء من العمارة الفلسفية، ففي التراث العربي القديم أهم من وصفوا نظرية الشعر العربي القديم هم الفلاسفة، كالفارابي، وابن سينا. اليوم في الغرب ثمة قامات إبداعية في الشعر تقف في مواجهتها مباشرة قامات فكرية فلسفية مثل الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، والفيلسوف تزفيتان تودوروف وغيرهم..
رولان بارت كتب عن راسين كتابا قدم فيه نظرية عن شعره لا تقل عن مستوى شعر راسين.

• نظرتك لحداثة الأشكال والتجربة تقوم على أن الشاعر والشعر أكبر من المدارس والأشكال؟

الشاعر والقصيدة أهم من النظريات النقدية، والقصيدة أهم من شكلها. أنا لست عبدا للشكل. اكتب قصيدة على وزن كلاسيكي، واتركها تتحدى شعراء الحداثة، فأنا لا انتسب إلا إلى الإبداع في القصيدة.
هنالك ندرة في الشعر كله كيفما كتبوا أشكاله، لذا أدعو الآن إلى تبني موسيقات كثيرة، إيقاعات متنوعة للخروج من عنق الزجاجة، لأن الوزن قاس، ودليل صعب ومتحكم، بينما الشعر هو الحرية، وأطرح هنا سؤالا مهما إلى كل الشعراء العرب: لماذا نقتل ما بين أيدينا من موروث، ونُضيق الدوائر على أنفسنا في خلافات لا جدوى منها؟

•لماذا تقول إن الشعر نادر، على كثرته..أي الشعر تقصد؟

أسباب ندرة الشعر ترجع إلى أسباب كثيرة، جزء كبير منها يتمثل في ضحالة الثقافة، فكثير من الشعراء لا يدققون حتى في لغتهم. يريدون التجاوز من نقطة الجهل بالموروث، وليس من نقطة الرفض له، وثمة فرق هائل بين الأمرين. كذلك أيضا غياب الفهم أو التمييز بين النثر النثري، وشعرية النثر، والتسيب في الكتابة في مقابل ضعف النقد.. كل هذا يؤدي بالتأكيد إلى ندرة الشعر الحقيقي. لذا فأنا أدعو شاعر النثر إلى أن يُهندس القصيدة بالإيقاع. فالغموض ليس قيمة بذاته، وإنما تبعا لموقعه من العمل الشعري الذي يشتغل عليه.
95% من الشعر اليوم يصلح علفا للحيوان، ومن الجيد حقا لو كان هنالك ما بين 3 إلى 4 شعراء جيدين، و مهمين على الساحة العربية، وأنا أقول هذا إنقاذا للشعر، وليس انتقادا له.


 

المصدر : بريد بريد-ادريس علوش

Total time: 0.0528