صَدَقَ الأمين العام لحزب الله في لبنان حين قال أن الحزب لا يحتاج لآلاف الصواريخ للتأثير على مسار الانتخابات في البلد، وأن أسلحة خفيفة، أصبح يمتلكها الجميع، كفيلة بذلك. ورغم أن الرجل يسعى من خلال هذا الرأي، إلى تخليص الحزب من تهمة الإستقواء بالسلاح، إلا أنه عبّر بشكل قاطع عن ريّبة من انعدام تأثير فائض القوة لديه في زواريب السياسة المحلية. الأمر مقلق بالنسبة للحزب!
يعتبرُ السيّد حسن نصر الله أن الجميع في لبنان يمتلكُ أسلحةً خفيفة. وما يسوقه تؤكده مراجع أمنية وسياسية لبنانية، بحيث بات تسلّح اللبنانيين المُعلن والمضمر أمرا عاديا لا يستدعي تدابير ولا يحتاج إلى إجراءات. وظهور السلاح المضاد لحزب الله، سواء في مَشاهدِه الشمالية أو العرسالية أو الصيداوية..إلخ، أو سواء في طبيعة وهوية حَمَلَتِه وتنوّع مشاربهم، أمرٌ بات جلياً يُسقط عن حزب الله تفوّقه العسكري المفترض في ترجيح كفّة التوازن في البيت الداخلي اللبناني.
زجاجية بيت حزب الله تحرمه من رميّ حجارة في مسألة فوضى التسلّح والسلاح. الحزبُ لا يريد نقاشَ سلاح الآخرين كي لا يصبح النقاشُ حول الأمر برمته مشروعاً. حتى أن نصر الله يرفض اتهام الخصوم باستخدام السلاح لأغراض انتخابية، ويستعيض عن ذلك باتهامهم باستخدام سلاح المال، لعل في ذلك حجّة ترمي بالجدل نحو ميادين بعيدة لا تناقش السلاح. لكن حلفاء الحزب يتولون، بالمقابل، التعبير عن تبرّم الحزب من فتح بازار التسلح أمام الآخرين بعد أن كان الأمرُ امتيازاً لهم تتولى حمايته سلطة الوصاية السابقة. وفي تمرينات التبرّم يجري الحديث عن "الإرهاب" العرسالي والتسلّح السلّفي، والاستفزازات الأسيرية، فيما يتشدقُ الجمع في الدفاع عن الجيش اللبناني ضد سلاح الآخرين (تعامل حزب الله دائما بتحفظ إزاء أي مشاريع لتسليح الجيش فيما عدا عرض تسليحه من قبل إيران).
يدخلُ سلاح حزب الله في العرف الإستراتيجي في منظومة التوازنات الإقليمية. أجندة هذا السلاح تروم بناء قوة ردع ضد أي عدوان إسرائيلي يهدد كينونة الحزب. وقوى الحزب رديفة للنظام في طهران تُستخدم دون تردد لردّ أي عدوان يهدد ديمومة هذا النظام. ليس في الأمر تهمة، فأركان الحزب، ابتداء من زعيمه إنتهاء بكوادره الميدانيين، يؤكدون ذلك. كما أن منطق الترابط الإيديولوجي والعضوي بين "الضاحية" وطهران يحتّم ذلك (تصريحات قادة عسكريين إيرانيين تؤكد هذه الوظيفة العسكرية للحزب).
في ظل هذا التعريف (أي سلاح الردع)، يصبحُ هذا السلاح خارج الخدمة اذا ما انتفت مبررات استخدامه. كما يصبح هذا السلاح، لضرورته، خارج الخدمة بانتظار المعركة الكبرى المحتملة، التي قد تأتي، والتي قد لا تأتي أبداً. كما أن هذا السلاح الذي تحوّل إلى شأن اقليمي دولي، جعل من مسألة التعامل معه شأنا إقليميا دوليا لا تنفع فيه الوصفات المحلية.
"من أجل حماية السلاح" استخدم حزب الله السلاح في واقعة السابع من أيار (مايو) من عام 2008. حوّل التفوق العسكري الأمر إلى ما يشبه الإجتياح، ساق الخصوم إلى ما يشبه الانصياع (في الدوحة)، وقَلَبَ التوازنات بالقوة العسكرية. الأمرُ تمّ بسهولة نسبية. ولكن حين اصطدم الحزب مع قوى عسكرية متوفرة في الحدّ الأدنى آنذاك، لم يكن الأمر سهلا، بل مكلفا ومؤلما.
لن يستطيع حزب الله فرض خياراته السياسسة المقبلة من خلال القاء صواريخه من الضاحية الجنوبية (معقل الحزب) مثلا على الشارع المقابل في الطريق الجديدة (معقل المستقبل) مثلا. السيّد حسن نصر الله أشار إلى ذلك. الضغط بالسلاح لا يحتاج، على حدّ قوله، إلى صورايخ "زلزال" أو "فجر خمسة" أو طائرة "أيوب". الضغط يكفيه سلاح خفيف أصبح يمتلكه الجميع.
القضية في الداخل، وفي زواريب الداخل، شأنٌ يتم التعامل به عبر السلاح المتوفر مع الجميع. واذا ما قيّض لهذا السلاح أن يُستخدم في الصدام الكبير (وهو أمر يرفضه اللبنانيون)، فإن تجربة الحرب الأهلية أثبتت أن ما من طرف يمتلك معجزة الحسم والإنتصار، وأن التقدم بمعركة يوم الاثنين تلحقها نكسة يوم الثلاثاء، وأن تحقيق إنجاز في منطقة ما يوازيه إنجاز مقابل في منطقة مقابلة. وحين تصبح المواجهات ميدانية مُدُنية، يتوازن السلاح، أي تتوازن القوى.
ينزلق جدل السلاح في لبنان نحو قاع خطير. النقاش جرى في السباق في دعوة أطلقها من لا يمتلك السلاح إلى التسليم بالدولة وجيشها محتكرا وحيدا لحِرْفة التسلّح. تطوّر الأمر، كما هو معروف، إلى تحرك السلاح للدفاع عن السلاح. المعادلة اليوم تأخذ بعداً جديدا : سلاحٌ مستجد يطلب إزالة سلاح الآخرين قبل أي نقاش في هذا المضمار! (الشيخ أحمد الأسيىر طلب محاكمة نصر الله قبل مثوله هو للتحقيق بتهمة حمل السلاح). في الأمر سوريالية تُربك عقيدة التسلّح عند حزب الله، وتحيل أمر حماية السلاح الإستراتيجي أمرا عسيرا ضمن بيئة بدأ يحاصرها سلاح متنامي وغير صديق.
ينظرُ حزب الله بقلقٍ الى ما يفعله السلاح الخفيف للمعارضة في مواجهة الآلة العسكرية الثقيلة للنظام في سوريا. يعلم الحزب أن سقوط النظام في دمشق يعني قطع امداداته العسكرية، وبالتالي وقف تفوقه في هذا المضمار. ولأن الأمر كارثة على أرجحيته الداخلية في لبنان، فإن الحزبَ لم يعد يخفي انخراطه في القتال (بأعذار ركيكية لا ترقى إلى مستويات الابتكار السابقة) دفاعاً عن النظام في سوريا، أو لخلق أمر واقع جديد عند السقوط الحتمي لهذا النظام.
يتحوّل الحزب إلى مجرد ثكنات وقواعد ومخازن عسكرية. يفقد حيويته الداخلية بانتقاله الفجّ من قمة الانتصار إلى حضيض البقاء. يرتبكُ الحزب ما بين مراقبة حركة الطيران الإسرائيلي في قبرص، ومراقبة تحركات الشيخ أحمد الأسير في عبرا. يحاولُ أمين عام الحزب عبثا رفع خطابه ليلامس "هموم الأمة" في مقارعة أعدائها من "قوى الإستكبار"، ثم سرعان ما يسقط الخطاب إلى موقعه الحقيقي : "الأرثوذكسي" والانتخابات و"القرى اللبنانية الشيعية" في الداخل السوري...إلخ.
يعلمُ حزب الله أن أي "معركة كبرى مع العدو"، لن تحسّن موقعه الحالي في الداخل اللبناني، هذا اذا استطاع الحفاظ على هذا الموقع. ويعلمُ الحزب أن استخدام صواريخه الإستراتيحية هو استهلاك لمخزون نافذ (في ظل شلل العامل اللوجيستي السوري)، وهو لذلك لا يريد تلك المعركة ولا يسعى إليها، لكنه مضطر لعزف نغمتها لعدم امتلاكه زاداً آخر بعد فشل ادارة الحكومة التي فرضها بديلا عن حكومة خصومه.
يعرف الحزب أن مسألة التسلح مسألة تقنية بحتة. فيكفي أن يُرفع فيتو التسلح عن المعارضة السورية حتى ينسحب ذلك على القوى اللبنانية الداعمة لتلك المعارضة، بحيث يقضي النوع والكمّ على أي تفوّق يفخر به الحزب حتى الآن. يعرف حزب الله أن شلل سلاحه الثقيل في السجال الداخلي يجعله لا يخاطر بدفع الامور الى صدام شوارع يسقط عنه ما يطلق عليه الخصوم إسم "وهج السلاح
(*) صحافي وكاتب سياسي