عرفت للتو (حقاً!) انهمطرب وممثل شاب. احتاج الأمر لذهابي إلى «غوغل»! أقولها ببساطة ومن دون أي مضمرمتفاخر أو متعالٍ، مثلما قد يخطر لبعض الخبثاء. وسيلي هذا الاعتراف الأول بجهل خطيراعترافات أخرى، فمن كان من القراء بلا مزاج، فأرجوه أن ينتقل إلى عمود آخر منالجريدة. ولعلي في هذا التشجيع على الامتناع عن قراءة هذا المقال لا أتسبب بخسارةإحصائية كبيرة، إذ أثبتت دراسة قامت بها «مؤسسة الفكر العربي» ونشرت مؤخراًنتائجها، أن معدل البحث على شبكة الإنترنت في السياسة بلغ 1900 عملية بحث شهرياً فيمجمل البلدان العربية، وهو الأدنى في لائحة تتربع على قمتها الثقافة الإسلامية(8270 عملية بحث شهرياً)، تليها الثقافة العلمية 3620 بحثاً، والتعليم 2880،والطبيعة 2620، والتربية 1980، لتأتي السياسة في أسفل اللائحة مع ذاك المعدلالمذكور. بدأ تعرفي على تامر حسني بفضل هذه الجملة من الدراسة: «قام العرب - وتقدر الدراسة عددهم بـ330 مليون نسمة - عام 2009 بتحميل نحو 43 مليون فيلم وأغنية،بمقابل تحميل ربع مليون كتاب فقط. كما بلغت عمليات البحث التي قام بها العرب عام 2009 على شبكة الإنترنت عن المطرب تامر حسني ضعف عمليات البحث التي قاموا بها عننزار قباني والمتنبي ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين». وأعترف أني اضطررتللبحث (في غوغل مجدداً) لأعرف أن تامر حسني مصري، فعلى موقعه على «النت»، يوجد فراغأمام خانتي «الجنسية» و«العمر». لعل مرد الفراغ الأول إلى بديهية الإجابة لمن لميكن على مقدار جهلي بظاهرة طاغية، أو إلى قومية عربية شديدة لدى النجم. وهنا اعترافثالث بخضوعي الشديد لانحراف مهني يجعلني من «ألسنة السوء». فقد خمنت أنه ربما كانأيضاً - ربما - لحجب الجنسية نصيب من حسابات تخص الحفاظ على أحاسيس المعجبينوالمعجبات من غير المصريين والمصريات. ولكني حرْت في حجب العمر، ونسبْته إلى رغبةفي إرضاء فئات عمرية متعددة، وإن متقاربة بالضرورة، وجدتْ أخيرا نجمها المفتقد، أوهو مؤشر إلى شباب دائم يأمل به الرجل. وقد نبهني صديق أسرّيت له باكتشافي إلى أنالشاب وسيم رشيق رقيق أنيق، وبطريقة «مودرن»، وهذا يملأ فراغاً، وأنه قد أحدث نوعاًمن التهذيب بعد موجة من طغيان مغنين وممثلين أجلاف. قارنتُ بما أعرف، بعبدالحليم حافظ ثم بمن جاء بعده بقليل وبقي في سياقه ونمطه، حتى عهدي بكاظم الساهر،وأدركت - وهذا اعترافي الرابع أو الخامس - مبلغ القطيعة الواقعة في مجتمعاتنا بينما كان يحصل في عهود سابقة متوالية وما يخص العهد الحالي. فقد كان بإمكاني تقاسمالإعجاب بـ«حليم» مثلاً مع والديَّ، وكنا نتناقش في تفضيلات كل واحد منا لهذه أوتلك من أغانيه، وندرك عند الاختلاف الفارق العمري بيننا، وما يستتبعه من فارق فيالذائقة. وعلى أية حال، كان بإمكان أبي أن يُسمعني عبد الحليم نويرة الذي لمأجايله، كما أن تسمعني أمي القبَّنجي، وأن استسيغهما وأن يهماني، بينما لففتُ لبنانبحثاً عن سيد درويش لأسمعه لابنتي، وعندما يئست، طلبت مشاهير الغناء حتى وقت قريب،فوجدت أنه يصعب الحصول حتى على تسجيلات لأم كلثوم! وهي، هذه القطيعة الحالية، فيماكان هناك تواصل (يخص كل شيء) بين أجيال جدي وأبي وجيلي، تؤشر بزعمي إلى وقوع اختلالعميق في إدراك الذات ومرجعيات هذا الإدراك، وفي تعيين طبيعة المشروع التكويني أوالحضاري الذي يحفزنا. ولا يخفف من الاستنتاج أن الكتب الأكثر قراءة تتعلق بالتراثالإسلامي، بل لعله يعزز ذلك الزعم، حيث تصبح تلك القراءات هروباً إلى التاريخ ليسإلا... عذراً على الاستطراد، ولنعد إلى الموضوع. جهلي التام بتامر حسني خطأيوحدي، ودليلي، من ضمن أدلة سواه، أني بتُّ منقطعة عن كثير من الأشياء التي تخصمجتمعاتنا. وهذا هو الاعتراف الأهم. وقد تسبب لي بقلق وجودي من أن تعود النقيصة هذهإلى إقامتي في الخارج منذ عقدين من الزمن، رغم أن مجال عملي في أوروبا يخص العالمالعربي وهمومه وقضاياه، وأني قطعت إقامتي خارجه بزيارات طويلة ومتكررة إلى لبنان،وبتردد على المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، بوتيرة تفوق ما يحظى به الكثير منالباحثين سواي. أم أن هذه النقيصة هي دليل على انحراف مهني آخر يجعلني غارقة حصراًفي الشؤون التي تهمني؟ خفف عني ما قالته الدراسة التي أشرتُ إليها من أن «متوسطعمليات البحث الشهري على الإنترنت التي قام بها العرب عن قضية فلسطين بلغ نحو سبعةملايين و445 ألف عملية بحث، لتستأثر القضية الفلسطينية وحدها بنسبة 46,6% من اهتمامالعرب بمجموعة القضايا العربية العامة». أكاد هنا أعود إلى نسيان تامر حسني، لأنشغلبمساجلة زملائي المتشككين بالمركزية التي ما زالت تمتلكها المسألة الفلسطينية. ولأنالدراسة تقول أيضاً إنه «في 97% من عمليات البحث على الإنترنت، كان البحث يتم عماهو عربي مشترك وليس قطري»، كدت أيضاً أتوسل ذلك لأُفْحِم زملائي إياهم، وهم عادةنفس المتشككين الأوَل، بأنه يوجد شيء اسمه رابطة عربية، بدليل هذه الأرقام. ولكني أحجم، حياء من جهلي المتراكم الذي اعترفت به هنا، وحياء خصوصاً مما يقولهفي مقاطع أخرى «التقرير الثالث للتنمية الثقافية» الصادر عن مؤسسة الفكر العربي: «من مراجعة ترتيب الجامعات بحسب الأبحاث المنشورة لأساتذتها، يتضح أنه يوجد فيإسرائيل وحدها 16 مؤسسة جامعية أو بحثية ما بين الألف الأول في العالم في مقابل خمسمؤسسات جامعية لكل الدول العربية مجتمعة». فوجدت أنه يوجد ما هو أكثر ضرورة منالتلهي بالمساجلات وبالرغبة في الإفحام اللذين باتا يشبهان العراك العشائري، حيثكلٌ في خندقه متمترس، بلا رجاء في زحزحة خطوط التماس العبثية... شيء ضروري كمحاولةالإجابة على سؤال من أين نبدأ؟ وأصلاً هل نحن بصدد البدء؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ*جريدة " السفير " ـ عدد الثلاثاء 28 / 12 / 2010