ظلت الكثير من خفايا وتفاصيل مجزرة جمعة الكرامة طي الكتمان، في الوقت الذي كانت النيابة العامة تقوم بالتحقيق مع عدد من المتهمين الذين ضبطوا في مسرح الجريمة، وتستمع لشهادات آخرين، وتستدعي قيادات جهات أمنية مسؤولة عن حماية الأمن العام، وظلت محاضر تحقيقات النيابة ممنوعة من التداول لفترة زمنية، وبالرغم من أنها لم تستمع لأقوال أبرز المتهمين بالقتل، إلا إنها تضمنت الكثير من المعلومات والاعترافات والأدلة والقرائن التي يمكن من خلالها الإمساك بخيوط الجريمة وتحديد المخطط الفعلي للجريمة بكل سهولة إذا ما جرى تحويل القضية إلى المحاكم.
فيما يلي نستعرض بعض ما ورد في تلك المحاضر من معلومات مهمة تنشر للمرة الأولى:
مدير أمن العاصمة يكشف تواطؤ وزير الداخلية السابق
في واحدة من أهم الشهادات كشف مسؤول أمني عن تواطؤ وزير الداخلية السابق، مطهر المصري، في المجزرة من خلال إهماله للبلاغات المقدمة إليه منذ عشية الجمعة، وتعمّد تجاهلها وعدم توجيه المنطقة الأمنية الغربية كما كان يفترض باتخاذ اللازم رغم التواصل المستمر معه من قبل مسؤول المنطقة، وكيف أن حراسة وحماية قطاع الجامعة كانت ضمن اختصاصات الأمن المركزي وهو ما تسبب في إحجام الأمن العام عن التدخل وضبط المسلحين.
فقد استمعت النيابة لأقوال العقيد عبد الرحمن حنش- مدير أمن الأمانة ومدير أمن المنطقة الغربية أثناء حدوث المجزرة، حيث قال إنه أُبلغ من قبل التحريات بوجود إصابات داخل ساحة التغيير بعد صلاة الجمعة وأن إطلاق النار مازال مستمرا، فقام بإبلاغ العمليات العامة ووزارة الداخلية، إلا أن وزير الداخلية السابق مطهر المصري أفاده قائلاً « أنا عارف» ولم يعطه أي توجيهات بشأن ذلك، مشيراً إلى أن الحراسة الأمنية المكلفة لحماية المعتصمين في هذا القطاع (قطاع الجامعة) تقع ضمن اختصاصات الأمن المركزي.
وعندما سئل حول أسباب إطلاق النار؛ قال بأن المعلومات كانت تشير إلى أن المعتصمين سوف يزحفون باتجاه الجنوب للخط الدائري وتم إبلاغ وزير الداخلية بذلك، كما أبلغت وزير الداخلية مساء الجمعة بنية قيام المعتصمين بالزحف جنوباً واحتمال قيامهم بهدم الجدار القاطع لشارع خط الدائري، وكررت إبلاغ وزير الداخلية بذلك صباح يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً وكذلك أبلغته عند بدء إطلاق النار، كما أفاد بأن وزير الداخلية لم يقم بأي إجراءات بعد إبلاغه بذلك ما عدا متابعة أعداد القتلى والمصابين.
وأفاد بأن قوات مكافحة الشغب كانت متواجدة جوار الجدار العازل ولكنها سحبت في مساء الخميس باتجاه مطعم كنتاكي عند الجسر، وعند سؤاله حول أسباب سحب قوات مكافحة الشغب أجاب بأن هذا السؤال ينبغي أن يوجه لوزير الداخلية وقائد الأمن المركزي.
وعند سؤاله لماذا لم تتخذ أجهزة الأمن ما يلزم من إجراءات لمنع الاعتداء على المعتصمين أجاب بأن هذه المنطقة تقع في إطار اختصاص الأمن المركزي وهو المعني بحمايتها وليس لديه إمكانية لدخول المكان لمنع الجريمة والإمكانية والقدرة لدى قوات فض الشغب، وأفاد بأن توزيع المهام بين الأمن العام والنجدة والأمن المركزي يتم بناءً على محضر وخارطة رسم كروكي حددت فيه القطاعات وهذان المحضر والرسم موجودان بإدارة الأمن.
وصلت التحقيقات إلى رئيس عمليات الأمن المركزي فأقُيل النائب العام
أثناء التحقيقات مع المتهمين الذين ألقي القبض عليهم في مسرح الجريمة اتضح أن من بينهم جنودا وضباط أمن، فقد ضبط الثوار أحد أفراد الأمن قريباً من الجدار وذلك حينما كان يبلغ الجهة التي يعمل لديها بما يجري، واتضح لاحقاً أنه كان مدسوساً ويعمل كمخبر أمني في الساحة منذ نصب أول خيمة، وورد في كلامه اعترافات بتواجد ضباط ومسؤولين أمنيين في مسرح الجريمة، فتم استدعاؤهم للتحقيق، وكان أن انكشفت خيوط جديدة في الجريمة، تنوعت ما بين الاعتراف بوجود قادة آخرين متورطين، والكشف عن تواطؤ فعلي لجهات أمنية سهّلت ارتكاب الجريمة والتستر عليها.
وهو ما دفع النائب العام لاستدعاء العديد من القيادات الأمنية بدءاً بنائب مدير أمن المنطقة الغربية في العاصمة الذي كان متواجداً أثناء المجزرة، ورئيس أركان الأمن المركزي بأمانة العاصمة الذي كان هو الآخر متواجداً في مسرح الجريمة، وعدد من ضباط الأمن السياسي والأمن المركزي، إلى أن وصل الأمر إلى استدعاء رئيس العمليات في الأمن المركزي للجمهورية «العميد علي قرقر».. حينها شعر رأس النظام البائد أن مجرى التحقيقات بدأ يأخذ منحىً جدياً باتجاهه وعائلته، وباتت خيوط الجريمة تشير بأصابع الاتهام إلى المخطط والمتورط الحقيقي في ارتكاب المجزرة الدامية، فوجه من فوره بإقالة النائب العام الدكتور عبد الله العلفي، وتعيين بديل عنه، لإبقاء التهمة لصيقة بمن غُرّر بهم من أهالي الحارات المجاورة لساحة التغيير.
كاميرات تصوير للفضائية تصل الساحة قبل المجزرة
فيما كانت إحدى المروحيات تحلق أثناء الجريمة، كانت عناصر أمنية قد دفعت ببعض شباب الحارات لتوثيق المجزرة بعد أن منحتهم كاميرات كبيرة، ورتبت لهم الأماكن التي سيتموضعون فيها للتصوير، في الوقت الذي حضر مصورون تابعون للفضائية اليمنية قبل تنفيذ الجريمة للتصوير من أسطح المنازل.
فقد قال عمار علي عبادي السريحي في تحقيق النيابة «أنه في يوم الجمعة الساعة الثانية عشر ظهراً-قبل المجزرة- حضر إليه باسم الشامي ومعه مصوران من قناة اليمن بأدواتهم، وقال له باسم الشامي بأنه يريد أن يصعد المصورين إلى سطح منزلنا لكي يوثق ما سيحدث كون قناة سهيل ستذيع خبرا بأن قوات الأمن هي من تطلق النار وهؤلاء يريدون أن يثبتوا العكس ثم طلع شخص واحد ثم نزل لأن الرؤية غير مناسبة» حسب ما ورد في أقواله.
مسؤول أمني يفضح تورّط قيادة الأمن المركزي في المجزرة
تجاهلت قيادة الأمن المركزي البلاغات المقدمة حول المجزرة، تماماً كما فعل وزير الداخلية السابق، وتعمدت إرسال حملة أمنية جميع أفرادها من المستجدين غير المؤهلين ممن لم يمض على تجنيدهم سوى أسبوع أو أسبوعين ولا يعرفون حتى استخدام العصا ولا البندقية، حسب توصيف مسؤول أمني، وعندما كان يتم التواصل بعمليات الأمن المركزي للاعتراض على هذا الأمر كان الرد « هذه تعليمات القائد».
هذا المعلومات وغيرها كشف عنها رئيس أركان الأمن المركزي بالأمانة عبد العظيم أحمد الحيمي الذي قال إنه دخل إلى الساحة بلباس مدني بعد صلاة الجمعة، وسمع المعتصمين يصيحون «الجدار الجدار» فحاول صدهم من الاقتراب من الجدار لكنهم اندفعوا بكثرة وبعدها شاهد الدخان من جانب الجدار و سمع إطلاق النار، وشاهد مجموعة يحملون أحد المصابين منهم وكان ذلك قبل هدم الجدار، وكان الرصاص يصيب كل من يقترب من الجدار، وأغلب الإصابات شاهدتها تأتي في الرأس والإطلاق كان من سطح المنازل.
وعند سؤاله هل أبلغت رؤساءك بالموقف المتوتر وخاصة بعد بدء إطلاق النار وسقوط ضحايا؟ أجاب: نعم، أبلغت اللواء الركن عبد الملك الطيب قائد الأمن المركزي فقال لي «تمام» وأقفل التلفون، وعند سؤاله لماذا لم يحمل قائد الأمن المركزي كلامك محمل الجد ويقوم بإرسال جنود مدربين قادرين على منع إطلاق النار وقادرين على القبض على المسلحين أجاب: لا أعلم ما هي وجهة نظره.
وعند سؤاله لماذا لم تقوموا بالقبض على الذين يطلقون النار على المعتصمين؟ أفاد أنه لم يكن معه أحد!! وكرر أنه أبلغ رؤساءه عن الأحداث ولكن لا يدري ما هي الإجراءات التي اتخذت، ولأن مهمته في العاصمة هي إشرافية فقد قام بالإبلاغ عن الحادثة لرؤسائه ومنهم اللواء عبد الملك الطيب قائد الأمن المركزي، وأنه عاتب بعض رؤسائه في العمل لماذا يبعثوا قوات مستجدة إلى الساحة لإيقاف الجريمة، فأجابوه هذه تعليمات القائد!! حتى أن العقيد يحيى الضلعي لم يكن يعلم أنه خرج مع أفراد مستجدين لا علم لهم بإدارة الموقف.
وعند سؤاله باعتبارك أركان حرب الأمن المركزي في أمانة العاصمة لماذا لم تتخذ من الإجراءات ما يلزم لمنع وقوع هذه الجريمة ؟ أجاب أنهم في أمانة العاصمة مهمتهم افتراضية، وأنه قد أبلغ قائد الأمن المركزي بخطورة الموقف، وعاتب رئيس العمليات العميد علي محمد يحي قرقر، وقال له «لماذا تخرجون المستجدين في موقف مثل هذا» فأجاب بأنها تعليمات القائد، وأن الضابط الذي خرج مع الأفراد المستجدين لم يكن يعلم أنه لا يوجد لديهم دروع زجاجية ضد الشغب، وأضاف أنه لم يبلغ وزارة الداخلية بهذا الموقف وإنما أبلغ مدير أمن الأمانة عبد الرحمن حنش، «ويبدو أنه تواصل مع قيادة الوزارة وكان في مواقف سابقة يطلب تعزيزات من قيادة الأمن المركزي لكنهم لا يتجاوبوا لمثل هذه الطلبات».
وعندما واجهته النيابة بأنه ثبت في المحاضر التي حررتها النيابة تواجد عدد من أفراد الأمن المركزي في الجهة الجنوبية من السور وكان من ورائهم عدد من الملثمين المدنيين يطلقون النار ويصوبون أسلحتهم نحو المعتصمين مباشرة، ولم يقم هؤلاء الجنود الواقفين أمامهم بأي واجب، يفترض عليهم منعهم من إطلاق النار أو القبض عليهم، فأجاب إن الجنود كانوا من الضعف ما لا يستطيعون إن يحموا أنفسهم وبعضهم لم يمض عليه في التجنيد سوى أسبوع أو أسبوعين ولا يعرف حتى استخدام العصا ولا البندقية!!
وذكر أنه شاهد أشخاصا يطلقون النار من على سطح منزل علي أحمد علي محسن ولا يعرفهم كونهم ملثمين، وفي رده على سؤال النيابة: طالما وكنتم في الساحة وتعلمون أن إطلاق النار تم من أسطح المنازل وغيره لماذا لم تقوموا بالقبض على هؤلاء؟ فأجاب الأفراد في حالة ضعف لا يستطيعون حتى حماية أنفسهم وبعضهم لا يعرف كيفية استخدام العصي التي معه.
الملثمون والسيارات المجهولة
أثناء التحقيق مع عدد من المتهمين تحدث الكثير منهم عن وجود أشخاص ملثمين يطلقون النار صوب المتظاهرين، وأفادوا كذلك بمشاهدتهم سيارتين بدون أرقام كانتا تقل مسلحين حضروا إلى مسرح الجريمة وباشروا إطلاق النار على المعتصمين، وكان مما ورد في أقوال المتهم رقم 25 أنه أثناء إطلاق النار بعد الصلاة شاهدنا وصول سيارة فيتارا XJ7 موديل 2004/2005 بدون رقم زرقاء تقل شخصين بلباس أمن عام، وكانا ملثمين، وأن السيارة كانت تذهب إلى أمام عمارة الخولاني وتدخل الشوارع الفرعية وتمر إلى شارع عشرين وبعد وصول الأمن المركزي عادت السيارة ودخلت باتجاه المعتصمين، وعادت بعد نصف ساعة وفوقها شخص ثالث يلبس زيا مدنيا وهو ملثم ومعه بندق آلي.
المتهم قال إنه وقبل وصول السيارة الفيتارا وصلت سيارة صالون بيضاء نوع مونيكا آخر موديل وفوقها أشخاص وهم مسلحون كلاشينكوف وبعضهم ملثمون وعند وصولهم الخط الدائري نزلوا باتجاه المعتصمين وأطلقوا النار باتجاه المعتصمين وكان أفراد من الحارة يسألونهم لماذا تطلقوا النار فوجهوا أسلحتهم نحوهم وأطلقوا النار عليهم، فيما قال المتهم رقم 31 أن سيارة صالون بيضاء مونيكا جاءت وكان على متنها ثلاثة أشخاص مسلحين ورابطت بالقرب من منزل يحيى السريحي، وأفاد المتهم رقم 84 أنه شاهد من نافذة منزلهم سيارة صالون مونيكا بيضاء تهرب وهي مسرعة وكان إطلاق النار منها، وقال المتهم رقم 85 أنه سمع إطلاق نار من السيارة البيضاء المونيكا 2010/2011 وكانت بدون أرقام من جوار بيت السريحي، فيما قال رئيس أركان الأمن المركزي بالأمانة أنه شاهد سيارة صالون وشخصا يخرج البندقية منها.
أما الملثمون فقد ورد ذكرهم بكثرة في محاضر التحقيق، حيث قال المتهم رقم 26 أنه شاهد ثلاث مجموعات أشخاص ملثمين ومسلحين، وسمع من الناس أنهم من لكمة هائل والثانية مجموعة الكسارة حق الستين والمجموعة الثالثة من القاع يحملون مسدسات واتجهت هذه المجموعات نحو الجدار الفاصل بين المعتصمين وأهالي الحارة ، وأفاد المتهم رقم 30 أنه وصل إلى مكان الحادث أشخاص يحملون أسلحة وهم ملثمون وأطلقوا النار باتجاه المعتصمين.
أما المتهم رقم (9) فذكر أنه بعد أن تم تشكيل لجان شعبية لحماية الحارة من أي اعتداء، كان يشاهد أشخاصا غرباء كانوا يحملون سلاحا وهم ملثمون في خط الدائري، بينما أفاد رئيس أركان حرب الأمن المركزي بأمانة العاصمة أنه شاهد أشخاصا يطلقون النار من على سطح منزل على أحمد علي محسن ولا يعرفهم كونهم ملثمين.
وكان مما ورد في المحاضر أقوال المتهم رقم 23 وهو عاقل حارة، وكان مما قاله أنه لا يعلم من أحضر عدد من الملثمين إلى ساحة الجامعة وقاموا بإطلاق النار، ولا يعلم من هم، مؤكداً أن حضورهم كان في بداية إطلاق النار، وأن الأشخاص الملثمين كانوا يطلقون حتم (أي مباشرة) باتجاه المعتصمين.
وذكر المتهم رقم (1) أن زعيم المتهمين الذين أطلقوا النار على المعتصمين -نجل محافظ المحويت- كان يتواجد برفقته أكثر من عشرين مسلحاً لا يعرفهم.
الداخلية ترفض التوجيه بضبط القتلة
كشفت تحقيقات النيابة أن وزير الداخلية وقيادات الأجهزة الأمنية في العاصمة والبحث الجنائي رفضوا تنفيذ توجيهات النائب العام السابق عبدالله العلفي بالقيام بإلقاء القبض على المتهمين الذين وجهت النيابة بإلقاء القبض عليهم رغم معرفة الأجهزة الأمنية بأماكن تواجدهم، وهذا الرفض من قبل وزير الداخلية والأجهزة الأمنية يؤكد ويثبت العلاقة الوطيدة بين أولئك المتهمين ونظام صالح في تشكيل تلك العصابات المسلحة وأنه وجه أجهزته الأمنية بعدم القيام بإلقاء القبض عليهم حتى يتستر على الجريمة و يستفيد من العصابات في ارتكاب جرائم أخرى وهو فعلا ما حدث، حيث ارتكبت عصابة القاع جرائم أخرى وكذلك ارتكبت العصابات الأخرى مجازر مماثلة في جولة عصر وشارع الستين والزبيري وما زال أفرادها الآن يسرحون ويمرحون.
وهو ما يشي بأن من كان يدير عمليات التحقيقات لاحقاً في واقعة مجزرة جمعة الكرامة هي الأجهزة الأمنية، والنيابة وخاصة بعد إقالة العلفي كانت عبارة عن يد تحركها تلك الأجهزة كيفما تشاء تقدم لها من تشاء من المتهمين للتحقيق معهم وتمتنع عن إحضار من تشاء من المتهمين، وحتى من أحضرتهم للتحقيق أفرج عنهم.
مشاهد الجريمة كما يرويها ضابط أمن
ورد في محاضر التحقيقات أقوال لنائب مدير المنطقة الغربية بالعاصمة أحمد الطاهري، وفيها الكثير من التضارب بين كلام القادة الأمنيين، ففيما يؤكد أحدهم أن الحماية والتعزيزات الأمنية في جاهزية عالية للسيطرة على أي تطور قد يحدث، يكتشف آخر أن لا وجود للجنود من الأساس، وأن الحملة التي وصلت من الأمن المركزي بعد ساعة إلا ربع من بداية الجريمة كان أفرادها يحملون العصي فقط!!
إلى غير ذلك من الثغرات التي وردت في شهادة الطاهري التالي ننشرها كما وردت لأهميتها:
تم استدعائي من قبل مدير المنطقة للحضور يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً-قبل المجزرة- ووصلت إلى المنطقة الساعة العاشرة والنصف صباحاً فوجدت المقدم علي نعيم نائب مدير المنطقة لشئون الدعم والرائد ناصر الطائفي مدير إدارة السجون وخرجنا إلى الدائري ووجدنا عددا من الناس متجمعين في الشوارع الفرعية وكان التجمع غير اعتيادي ويلفت النظر، ووجدنا مدير المنطقة العقيد يحيى الأكوع وكان في نفس المكان وأخبره أنه قد عقب على كل الأماكن المؤدية إلى ساحة التغيير، وأخبرنا أن كل الأماكن فيها قوة كافية، فرددت عليه: ضروري من خدمات مكثفة خلف السور من الجهة الجنوبية، فأفاد أنه قد بلغ وطلب خدمات.
وبعدها عدنا إلى المنطقة حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً، وسألته ما هي المهام الملقاة علينا؟ فأجاب بأنه لا يوجد علينا أي مهمة سوى أنكم تنزلوا بعد صلاة الجمعة إلى الشارع ولو في أي حاجة تواصلوا معي بالتلفون وأنا سوف اتجه إلى قسم الحميري للتعقيب على بقية الشوارع الفرعية في المنطقة.
وبعد أن صلينا الجمعة في الجامع قريباً من المنطقة خرجنا مبكرين، وفي باب المنطقة التقيت الرائد خالد العقاري وناصر الطالعي والمقدم علي نعيم واتجهنا إلى الدائري حسب توجيه مدير المنطقة لغرض الإطلاع وإبلاغه بما يحصل، وعند وصولنا الشارع وجدنا كثافة غير عادية من الناس وشاهدنا البعض يحمل أسلحة والبعض عصي وأثناء مرورنا في الشارع وجدنا شخصا يدعى علي أحمد الأحول والناس متجمعين حوله فكلفت الرائد ناصر الطائفي باستدعائه إلي بعد إقناعه من قبل الطائفي فسلمت عليه وسألته عن سبب التجمع وأنه لا داعي للتجمع، فرد علي بقوله ما دخلكم أنتم رجال الأمن نحن سنحمي بيوتنا، واتصلت بمدير المنطقة وأخبرته أن الوضع متأزم جداً لأن هناك تجمعا كبيرا ومسلحين، وقد يحصل اشتباك بينهم وبين المعتصمين، فرد علي قد بلغت والتعزيز سوف يصل.
وفجأة شاهدت شخصا سمينا يدعى عبد الجليل السنباني يقترب من السور ويعطي شخصا آخر بترول لكي يحرق الإطارات فأرسلت الضابط خالد العقاري يقول لهذا الشخص لا داعي للإحراق واستفزاز الناس لأنه سوف يحدث مشاكل وعاد إلى عندي وقال له ما دخلكم، وبعدها اشتعلت النار والدخان تصاعد وبعد عشر دقائق سمعت طلقات نار كثيفة غير عادية من منزل علي أحمد الأحول وكذا سمعت طلقات نارية من خلفنا باتجاه الجو أما الطلقات النارية التي كانت من بيت الأحول فكانت موجهة نحو المعتصمين.
وتم التواصل مع مدير المنطقة على أساس طلب تعزيز ولماذا لم يصل، وبعدها اتصل بي عبدالوهاب زبارة مدير العمليات وقلت له لا يوجد أفراد، ثم بحثنا عن رقم الأحول من أجل أتواصل معه لإيقاف إطلاق النار، وبعدها اتصل بي مدير الأمن يسألني كيف الأوضاع عندك فأخبرته أن هناك إطلاق نار كثيف وخاصة من بيت الأحول، وقال سيرسل تعزيز وكان إطلاق النار من بيت الأحول من السطح والنوافذ وكذا من باب البيت بشكل جنوني.
وبعد ساعة إلا ربع وصل أفراد الأمن المركزي بالعصي والخوذ وحاولوا جاهدين فك الاشتباك فخرج لهم المعتصمون بعد هدم السور يرمونهم بالحجارة وأثناء انسحاب الأمن حصل ضرب نار كثيف من بيت الأحول باتجاه المعتصمين وإطلاق نار نحو المعتصمين فهرب أفراد الأمن وانسحبت أنا والضباط الذين كانوا معي.
وشاهدت ثلاثة أشخاص ملثمين ويلبسون «معاوز مقعشين» ومعهم جعب كانوا يطلقون النار باتجاه المعتصمين وتقدموا حتى وصلوا إلى بيت الأحول، وكانت مهمتي هي أن أبلغ مدير المنطقة حسبما كلفني به.
< ملاحظات مهمة: مدير المنطقة أكد أنه تم اتخاذ الإجراءات اللازمة، فيما اكتشف نائبه عدم جود جنود وأبلغ مدير العمليات بذلك، ولم تصل التعزيزات إلا بعد ساعة إلا ربع وهم بالعصي والخوذ فقط، وهذا يؤكد أن العملية مدبرة وأن للأمن يد فيها، وإلا كيف يتم إخلاء المكان من الجنود، وكيف يتأخر وصول الحملة الأمنية كل هذا الوقت، ولماذا يتم إرسال أفراد بالعصي فقط لمواجهة إطلاق النار!!
مواجهة مدير أمن المنطقة
حين واجهت النيابة مدير أمن المنطقة الغربية بالأقوال السابقة وقيل له: جاء في أقوال أحمد الظاهري أنه وجدك في الشوارع الفرعية وأخبرك عن الوضع المتأزم فقلت له بأن القوة كافية فهل كانت القوه كافية بالفعل؟ أجاب لم تكن القوة كافية لمنع الجريمة قبل وقوعها لأن مهمة الشرطة منع الجريمة قبل وقوعها، والأمن المركزي هم الجهة المختصة بذلك، وأنه بعد القتل والإصابات طلب التعزيزات من أمن أمانة العاصمة ولكن التعزيزات جاءت من الأمن المركزي متأخرة.
أحداث مجزرة جمعة الكرامة كما هو ثابت في ملف تحقيقات النيابة
يسرد المحامي طه الشرعبي أحمد المحامين الاكثر اطلاعاً والماماً بالتحقيقات في الجريمة من واقع ملف تحقيقات النيابة العامة في السطور التالية:
بدأت فصول هذه المجزرة بالاجتماع في منزل مسئول بارز في القضاء، حيث حضر الاجتماع قيادات تابعة للنظام، ومن تلك القيادات أحد وكلاء جهاز الأمن السياسي، وعبدالرحمن الكحلاني عضو المجلس المحلي والعقيد عبدالرحمن المضعلي وعلي الحبيشي دكتور في جامعة صنعاء وعباس العلفي ومحمد يحيى الشهاري، وهناك قيادات آخرى وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على القيام بتشكيل عصابات مسلحة سُميت بـ "لجان شعبية لحماية الحارات" كما حضر هذا الاجتماع بعض عقال الحارات وفي هذا الاجتماع كلف عاقل حارة الغدير الشرقية عقيل البوني بالقيام بحصر وتجميع أفراد لتكوين عصابات.
بعد ذلك عقد اجتماع ثان في نفس المنزل وقرروا أن يجتمعوا في المرة الثالثة في صالة الزراعة وطلب من عقيل البوني أن يقوم بإبلاغ أفراد تلك العصابات بالحضور للاجتماع، وفعلا تم الاجتماع في صالة شارة الزراعة وفي هذا الاجتماع حضر أيضا رئيس الدائرتين 14- 13 للمؤتمر الشعبي وفي الاجتماع تم تشكيل تلك العصابات كمجموعات.
كما تم الاتفاق على تسليح من ليس لديه سلاح، ويتولى هذه المهمة أحمد علي محسن الأحول الذي كان يحضر تلك الاجتماعات أيضا ويتولى المسؤول القضائي معه بناء الجدار، وقام أحمد علي محسن بتسليم أسلحة لمن لا يمتلك سلاحا وكان يتم تسليم الفرد منهم ويعطى مصاريف تترواح ما بين 2000- 5000ريال.
وقام المسؤول القضائي بشراء ثلاثمائة طوبة لبناء الجدار في الشارع لحجز المعتصمين من التوسع في الشارع العام، ثم قام بالاتصال بعقيل البوني للحضور لأخذ الطوب لبناء الجدار فذهب عقيل البوني وتم البناء، وقام أحمد علي محسن الأحول بشراء النيس والأسمنت وحديد لكي يكون الجدار متينا وتم بناء الجدار وبعد استكمال بناء الجدار الرئيس في الشارع العام ثم بناء جدران في الشوارع الفرعية.
كما اجتمعوا في منزل العقيد عبدالرحمن الكحلاني، وبعد أن وضعوا الخطة واستكملت التجهيزات، ومن ضمن تلك الخطة والتجهيزات القيام بتجهيز مستشفى الشهاري الواقع في شارع عشرين التابع للعقيد الشهاري الذي يعمل في المستشفى العسكري، وذلك تحسبا للحالات الطارئة التي قد تحدث من ردة فعل المعتصمين عندما يرتكب ضدهم مجزرة من تلك العصابة، فتوقعوا ردة فعل من المعتصمين ضد أفراد تلك العصابة، فجهزوا مستشفى الشهاري كونه قريبا من مسرح الجريمة على أن يتم الإسعاف الأولي إلية ثم يتم نقل المصاب من أفراد تلك العصابات بعد ذلك إلى أحد المستشفيات الحكومية.
بعد ذلك كانوا يقومون بالدفع بأشخاص للظهور في الفضائيات الرسمية، مثل قناة اليمن وسبأ لكي يقولوا أنهم من أهالي الحارة وأنهم متضررون، ثم تم تجهيز المنازل التي سوف تستخدم لارتكاب الجريمة من داخلها وهي تابعة لقيادات في النظام تطل منازلهم على ساحة الاعتصام إلى جانب القيام باستئجار أسطح بعض المنازل من ملاكها المؤيدين للنظام حيث كان يتم استئجار سطح المنزل الواحد بمائتين ألف ريال.
وبعد استكمال كافة التجهيزات قامت بعض تلك العصابات بالظهور بأسلحتها في الحارة والشوارع وعند الجدران وفي مساء يوم الخميس 17/3/2011م قام بعض أفراد العصابة بالذهاب لشراء إطارات وبعضهم لشراء سلاسل حديد لربط الإطارات مع بعضها عند وضعها بجانب الجدران لكي تحترق بأكملها وكذلك شراء مادة أسفلت تصب فوق الجدار حتى يكون الدخان المتصاعد أسود لكي يحجب رؤية أفراد العصابة وهم يطلقون النار فلا يعرفهم المعتصمون، حيث تم شراء السلاسل الحديدية من صاحب محل أدوات بناء في شارع عشرين ولم يأخذ نقودا مقابل شراء تلك السلاسل وإنما قام بالتبرع بها لهم كما تم شراء مادة التينار، و قام علي أحمد علي محسن في مساء ذلك اليوم بإدخال أفراد من العصابات هو ووالده محافظ محافظة المحويت ومرافقيه وإدخال أسلحة وذخائر، من تلك الأسلحة معدل وبعد ذلك التجهيز جاءت الأوامر العليا لقوات الأمن المركزي مكافحة الشعب التي كانت تتواجد طوال أيام الأسبوع في تلك المنطقة ومكلفة بحماية للمعتصمين كما يزعمون، وفي منتصف ليلة الجمعة 18مارس سحبت تلك القوات فجأة، فاستغرب بعض ِأفراد العصابة الذين كانوا منتشرين في تلك المنطقة وسألوا لماذا انسحبت فأجابوا عليهم إنها تعليمات عليا وردت، ثم قالوا لا تخافوا لن يستطيع المعتصمون هدم الجدار والتوسع.
وقام بعض الضباط التابعين للأمن المركزي ووزارة الداخلية بالاتصال بقيادات الأمن المركزي ووزير الداخلية عن تواجد كثيف للمسلحين في مساء هذه الليلة ينوون مهاجمة المعتصمين إلا أن قيادات الأمن المركزي ووزير لم يتجاوبوا وأغلقوا هواتفهم.
وفي صباح يوم الجمعة 18مارس قام علي أحمد علي محسن البيضاني ابن محافظ محافظة المحويت بالاجتماع ببعض أفراد العصابة جوار السور، وقال إن دماء المعتصمين دم حنش (أي مباحة)، وبدأت تتوافد تلك العصابات وكانت تصل في وقت واحد ومن تلك الجماعات مجموعة الكسارة بقيادة خالد شوتر ومجموعة اللكمة بقيادة صالح المراني وآخرين والمجموعة الثالثة مجموعة القاع.
كما حضر مصورون تابعون للفضائية اليمنية ليصوروا ما يجري من أحداث حتى يكذبوا قناة سهيل كما قالوا أن قناة سهيل تزعم أن من يعتدي ويطلق الرصاص على المعتصمين هم العسكر فنحن اليوم نريد إثبات العكس من أن من يعتدي على المعتصمين ويطلق الرصاص عليهم ليسوا العسكر، وطلبوا أن يصعدوا فوق أسطح بعض المنازل للتصوير، كما حضر مصور تابع للتوجيه المعنوي يريد أن يصور ما سيقع من أحداث وكذلك قام محافظ المحويت وابنه باستئجار مصورين للقيام بتصوير الأحداث، وأثناء أداء الصلاة قاموا بصب مادة الأسلفت على الجدار وبعد أداء المعتصمين صلاة الجمعة والعصر وعند قول الإمام السلام عليكم ورحمة الله أي عند الانتهاء من الصلاة قام عضو المجلس المحلي عبد الجليل السنباني والذي كان قد حضر الساعة العاشرة صباحا في سيارة عليها ميكرفون ينادي بها ويقوم بتحريض أهل الحارة ويصيح فيهم: يا أهل الحارة أخرجوا دافعوا عن حارتكم من المعتصمين فقام هذا الشخص ومعه مجموعة من أفراد تلك العصابة منهم بشير النمري وآخرين بإحراق إطارات السيارات وصبوا عليها مادة التينار والبترول لكي يتصاعد الدخان بكثافة ويعمل غطاء يحجب الرؤية.
وكان المعتصمون في تلك اللحظة قاعدين بعد الانتهاء من الصلاة يرددون شعاراتهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعند الانتهاء من ترديد هذا الشعار وغيره وبدأوا بترديد شعارهم: الشعب يريد إسقاط النظام بدأ علي أحمد محسن البيضاني بإطلاق النار مباشرة على المعتصمين وتبعه في تلك اللحظة مرافقيه من داخل المنزل ثم أفراد العصابة من داخل المنازل والشارع فسقط أول شهيد والمعتصمون ما زالوا جالسين يرددون شعاراتهم، لا كما زعم وزير الداخلية أنه بسبب هدم المعتصمين الجدار تم إطلاق النار عليهم، و بعد سقوط أول شهيد قام المعتصمون وشاهدوا أن إطلاق النار يأتي عليهم من منزل محافظ محافظة المحويت والمنازل المجاورة والمطلة على ساحتهم فحاول البعض منهم الاتجاه نحو الجدار لإيجاد فتحة منه للخروج للإمساك بمن يطلق النار فكان كلما اقترب الشباب من الجدار تساقطوا شهداء من كثرة إطلاق النار عليهم وقنصهم في الرأس والرقبة.
ومع ذلك استطاع بعض الشباب هدم جزء من السور للخروج منه وفعلا خرجوا واتجهوا للشارع فتساقط الشباب لكن الشاب الذي يخرج من السور يسقط شهيدا حتى استطاع بقية الشباب هدم كامل السور والاتجاه نحو من يطلق النار للإمساك به وكانت قوات الأمن المركزي التي حضرت تقوم بالاعتداء على المعتصمين ورشهم من خلال عربات الرش وإلقاء قنابل غازية سامة ومواد حارقة وإطلاق نار من الضباط والجنود الذين كانوا حاضرين بعضهم بلباس مدني وبعضهم بلباس رسمي كما أن ضابط كان جوار سائق عربة الرش كان يقوم بإطلاق الرصاص من داخل العربة على المعتصمين وحاول جنود الأمن المركزي منع المعتصمين من الإمساك بأفراد تلك العصابة الذين كانوا يطلقون النار من وسط وأمام وخلف أولئك الجنود ضد المعتصمين ولم يتحرك جنود الأمن المركزي بإلقاء القبض على أولئك الجناة أو منعهم من الاستمرار عن ارتكاب الجريمة وظل إطلاق النار ما يقارب ثلاث ساعات واستطاع بعض المعتصمين الإمساك ببعض أفراد تلك العصابة أثناء إطلاقهم للرصاص باتجاه المعتصمين وتساقط أيضا شهداء عند محاولتهم الإمساك بأولئك الأفراد وقد نجحوا في الإمساك بهم.
هكذا تم التآمر والاتفاق والإعداد والتجهيز والتمويل لتلك العصابة من قبل النظام وقياداته العسكرية والأمنية والسياسية والحزبية والمدنية، وهذا ما أكدته النيابة عن قرار الاتهام بقولها عن تلك العصابة التي هاجمت المعتصمين وارتكبت تلك المجزرة ما نصه: شكلوا عصابة مسلحة للقيام بمهاجمة المعتصمين في الشارع العام جوار جامعة صنعاء الدائري الغربي بأمانة العاصمة وأعدوا لذلك الغرض عدته من أسلحة نارية وذخائر وإطارات سيارات ومواد قابلة للاشتعال وسدوا مداخل الشوارع الفرعية والشارع العام وتقاسموا الأدوار بينهم وما أن استكملوا مخططهم قاموا بارتكاب الجريمة، هكذا أثبتت النيابة كذب زعيم النظام وقياداته أنه بسبب تحريض خطيب الجمعة المعتصمين قاموا بهدم الجدار ونتيجة لذلك قام أهل الجامعة من إطلاق النار بينما أثبتت النيابة عدم صحة هذا المزعم وأن هذه المجزرة قد تم التآمر والاتفاق والتخطيط والإعداد والتجهيز لها مسبقا وبعد استكمال كافة التجهيزات نفذوها يوم الجمعة إلا أنه للأسف رغم ثبوت ذلك للنيابة إلا أنها لم تقدم أحد من القيادات التي قامت بذلك للمحاكمة، رغم الحقائق التي كشفتها التحقيقات أن هناك ضباط وجنود كانوا بلباس مدني يحملون مسدسات كلاك يطلقون النار منها على المعتصمين وبعضهم لديهم أسلحة وتلك النوعية من المسدسات لا يملكها إلا القوات الخاصة وبعض ضباط الحرس والأمن المركزي.
جولة في مسرح الجريمة
ظهيرة الثلاثاء الفائت كنت في جولة الشهداء، لأرى كيف يبدو هذا الحيّز من شارع الدائري بعد مرور عام على مجزرة جمعة الكرامة؛ بدا المكان هادئاً إلا من تحركات الثوار وصور الشهداء التي تتوسط الجولة، غير أنك ما أن ترفع ناظريك إلى الأعلى صوب المنازل المجاورة حتى تستعيد ذاكرتك أحداث المجزرة الدامية، وتتحفز الصور المختزنة التي شاهدناها عبر شاشات التلفزة لتطفو إلى الذهن مصحوبة بألم وحزن عميقين.
حينما شاهدت هذا المنزل (الصورة 1) ذي الطابقين، عادت بي الذكريات إلى الوراء عاماً كاملاً، فعلى سطحه كان عدد من الملثمين يطلقون النار بلا رحمة صوب المعتصمين السلميين، وقد رأى العالم هذا المشهد في الفضائيات لعشرات المرات؛ فمَن منا لا يتذكر هذا المنزل وأولئك القتلة الملثمين الذين كانوا يجوبون سطحه، رأينا ذلك مراراً على فضائية الجزيرة وسهيل، ولا زلنا.
بدا لي وكأن شبح الموت والمأساة يطل من وراء نوافذ المنزل المهشمة، وأن جدرانه المحترقة تود أن تشي بالكثير عن المجزرة التي صعقت لهولها اليمن؛ هذه هي المشاعر التي سيطرت عليَّ وأنا أقف في مواجهته، لا أدري لماذا استوقفني هو بالذات بالرغم من وجود منازل وبنايات أخرى اعتلاها القتلة لمباشرة تنفيذ الجريمة، أحسست أنه يختزل تفاصيل كثيرة وخطيرة عن المجزرة الدامية.
مررت على البنايات والمحال التجارية الأخرى التي ورد ذكرها في محاضر التحقيق كمسرح للجريمة، لأرى كيف تبدو، كانت آثار الرصاص والدخان باقية على بعضها؛ أما الشارع فقد امتلأ بالخيام التي تتوزع فيما بينها وعلى مقربة منها قطع من الطوب المتكسر، فهنا كان الجدار المشؤوم، الذي بُني للحيلولة دون توسع خيام الثورة، وخلفه كان يختبئ الموت ويحتمي القتلة والملثمون، لم يبق منه الآن قائماً سوى هذه الثلاث الطوب التي ترونها في الصورة، وفي الأعلى منه على جدار المنزل الملاصق له يبدو آثار حريق الإطارات التي تم إشعالها على السور قبل تنفيذ الجريمة بدقائق معدودة.
لقد سقط الجدار وسقط معه النظام، ولم يُسلِم الشباب أرواحهم على السور فحسب، بل أمامه بمئات الأمتار، ولم يفتحوا ثغرة للنور فقط، بل اقتلعوا الجدار من أساسه لينشر الضوء أشعته على أرجاء اليمن، ويبدد دياجير الظلمة والطغيان الكالحة.
مقاربة تحليلية للجريمة
إذا كان هناك من ملاحظات وصلت إليها من خلال اطلاعي على ملف الجريمة بما يحويه من اعترافات وشهادات ووثائق ومحاضر، فإن ثمة مسرحية تتكرر لمؤلف ومخرج واحد، من أحداث الحجرية إلى مجزرة جمعة الكرامة، خلاصة هذه المسرحية على النحو التالي: للتخلص من أي خصم يتم توريط محيطه فيما سيجري لاحقاً من جرائم ماحقة، أو عزله عن محيطه، فيجري الدفع بأبناء المحيط الذي يتواجد فيه الخصم ليكونوا في واجهة الحدث، ويأتي المجرمون الحقيقيون مقنّعون ليكون لهم اليد الطولى في الجريمة وينسحبون من مسرحها إلى حيث لا يدري أحد، وتلصق التهمة ضد أبناء المحيط ممن يجري القبض عليهم بالفعل وهم متلبسون بالجريمة وأدواتها، ومشاركون في بعض ما دار فيها، لكنه لم يكن يدور في خلدهم أن تؤول الأمور إلى تلك العواقب الوخيمة، وأن تكون النتائج على ذلك النحو من الإجرام والفاشية.
هذا ما حدث فعلاً، فقد تمت تعبئة وتحريض أبناء الحارات المجاورة والمحلات التجارية بطريقة ممنهجة عبر عناصر أمنية وقيادات في الدولة بعضها من سكان تلك الحارات، فتم استدعاؤهم أكثر من مرة لاجتماعات أكدت على ضرورة أن يقف أهالي الحارات صفاً واحداً ضد توسع الثوار وحماية الشوارع والأزقة منهم.
وجرى تشكيل ما يسمى باللجان الشعبية للدفاع عن الحارات والتي تزعمتها قيادات أمنية كما ورد في التحقيقات، ووزع المال والسلاح والذخيرة، ونشط بعض عقال الحارات وعناصر أمنية في جمع التبرعات من أصحاب المحلات التجارية لبناء الجدار وجلب الإطارات، وقبل صلاة الجمعة خرج ضابط أمن وعضو مجلس محلي -وفقاً للتحقيقات- بسيارة عليها ميكروفونات لتحريض الأهالي، وكان ينادي الأهالي قائلاً " اخرجوا احموا منازلكم ومحلاتكم " وكأن الثوار سيقتحمون البيوت وينهبون المحلات التجارية، وهو ما يؤكد أن الخطة تسير في اتجاه استكمال توريط أبناء الحارات حتى النهاية، فخرج الكثير من سكان الحارات-وفقاً للتحقيقات- إلى أمام منازلهم قبل صلاة الجمعة وهم يتمنطقون الأسلحة، وعندما بدأت الجريمة عقب الصلاة أطلق أشخاص إشاعة مفادها أن الثوار قتلوا أحد أبناء الحارة " يدعي محمد الشامي" لتحريض الأهالي على الخروج بأسلحتهم دفاعاُ عن حياتهم، إذ الأمر تجاوز مسألة حماية المنازل والمحلات إلى الدفاع عن الأنفس، بدا وكأنهم يريدون تصوير القضية على هذا النحو.
حصل هذا فيما كان عدد من القتلة الحقيقيون قد أخذوا أماكنهم على أسطح المنازل وخلف نوافذها وباشروا إطلاق النار على المعتصمين، فيما كان عشرات من القتلة الملثمين يتقاطرون من حارات أخرى، ويتوافدون على المكان ويطلقون النار صوب شباب الثورة مباشرة.