قبل أعوام قليلة، كان صعباَ على كثير من اليمنيين تصوُّر أن تصبح حضرموت مسرحاَ للأحداث الأمنية الدموية. لكنها تصدرت في العامين الأخيرين، مشهد عنف متعدد الدوافع، وطاول أهدافاَ متعددة، من مؤسسات أمنية وعسكرية، ونقاط أمنية، وتصفيات غامضة للضباط والجنود، وإحراق محال… حتى قيل إنها “بنغازي اليمن”.
ولم تستثن حوادث الموت علماء ودعاة يستنكرون هذه الجرائم، إذ اغتيل في 19 فبراير/شباط الماضي، الشيخ علي باوزير المعروف بانتقاده المستمر لمثيري العنف. في 24 مارس/آذار الماضي، ذهبت نقطة أمنية يمنية بكامل أفرادها المكونة من 22 جندياَ، ضحية هجوم مسلح في حضرموت، شرق البلاد. ويوم الجمعة، قُتل خمسة جنود يمنيين بينهم ضابط، وجرح جنديان، في حصيلة أولية لأحدث هجوم يستهدف جنود الجيش اليمني في محافظة حضرموت، شرق البلاد. فكيف انتقلت هذه “الدولة” لتصبح أقرب إلى بنغازي ليبيا؟
“طيور مناقيرها من حديد”
تعتبر حضرموت كبرى المحافظات اليمنية، إذ تمتد من الماء الى الصحراء، من سواحل البحر العربي جنوبا وحتى صحراء الربع الخالي شمالا في الحدود مع السعودية، بمساحة 191 ألف كيلومتر، ما يزيد عن ثلث مساحة البلاد، ويقارب حجم اليمن الشمالي سابقاً، وعاصمتها المكلا، ثالث أهم المدن اليمنية بعد صنعاء وعدن. وأهم مدنها سيئون، والشحر، وتريم، وشبام.
وحضرموت هي محافظة الخمس مدن والخمس موانئ والخمسة مطارات. وقد وصفها السفير الأميركي الأسبق لدى صنعاء، ادموند هول، بأنها “تمتلك مقومات دولة”.
امتاز أهلها بالتجارة والشعر والتمدن والتدين وجمال العمران وحب الهجرة. وعبر مهاجري حضرموت، عرف الاسلام طريقه الى شرق افريقيا وجنوب شرق آسيا، وانتشر في تلك الأرجاء مواطنون من أصول حضرمية بنسبة تقارب 7 أضعاف سكان محافظة حضرموت البالغ عددهم مليون نسمة، كل ذلك عدا عن حضورهم الكبير في السعودية والإمارات وقطر والكويت بوصفهم أحد أعمدة حركة الاقتصاد الخليجي، إضافة إلى إسهامهم الفاعل في تكوين الهوية الثقافية لليمن والخليج. وذات مرة، في اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، التقى 4 وزراء خارجية لـ4 دول، جميعهم من أصول حضرمية. كما تُعَدّ حضرموت البلد الأم لعدد من العائلات التجارية العملاقة على مستوى الجزيرة العربية، منها العمودي، بن لادن، باشنفر، بقشان…
وتنتج حضرموت النفط والتمور والأسماك والعسل والحنا واللبان والمفكرين والسياسيين والعلماء ورجال الأعمال. ولا يميل الحضارمة كثيراً للالتحاق بالسلك العسكري، على الرغم من أنه يُعرف عنهم كونهم قوماً شديدي البأس، ويُحكى أن أحد جنرالات الاستعمار البريطاني وصفهم بأنهم “طيور مناقيرها من حديد”.
تتشكّل التركيبة السكانية لحضرموت من قبائل كندة والأزد وحمير وهمدان ويافع والسادة الأشراف من آل باعلوي. وتغلب سمة التديّن على حضرموت، كما هو حال بقية محافظات اليمن. وتنشط في حضرموت تيارات السلفية والصوفية والإخوان، مع حضور غير واضح لـ”الأباضية” التي كانت حضرموت أحد معاقلها.
أهمية جيوسياسية
كانت حضرموت قبل استقلال جنوب اليمن عام 1967، ممثلة بسلطنتي الكثيري والقعيطي ضمن ما كان يعرف بـ”اتحاد الجنوب العربي”، ثم اندرجت في اطار جمهورية اليمن الجنوبي التي توحدث مع الشمال 1990.
وأثناء الثورة المنادية برحيل الرئيس علي عبد الله صالح، في 2011، كان لحضرموت دور بارز في أحداث الثورة، لكنها في الفترة نفسها، شهدت نشاطاً سياسياً من نوع آخر، تمثل في مكونات كـ”المجلس الأهلي” و”العصبة الحضرمية”، وغيرهما من المكونات التي مثلت الدعوات المطالبة بجعل حضرموت كياناً مستقلاً، أو ضمن دولة فيدرالية على الأقل.
وتأتي أهمية حضرموت من كونها محافظة نفطية كبيرة المساحة وقليلة السكان، وغير متداخلة كثيراً مع بقية محافظات القطاع الغربي ذات الكثافة السكانية، وتأخذ حضرموت هوية خصوصية ضمن الهوية اليمنية الجامعة.
وإلى جانب الأحزاب الرئيسية في اليمن، تنشط في حضرموت ثلاثة تيارات: تنظيم القاعدة، الحراك الجنوبي، المجموعات الانفصالية ذات النزعة الحضرمية. وخلال العامين الماضيين، كانت حضرموت ساحةً لأعلى معدل عمليات الاغتيال الغامضة التي استهدفت ضباط الجيش والأمن، إذ شهدت أكثر من 80 عملية اغتيال. الأمر الذي عده مراقبون مؤشراً على وجود استهداف لوجود الدولة في أهم محافظاتها.
وقبل أسبوع، اعتُقل متهم بالاغتيالات يدعى فؤاد بانصيب، بعد محاولة اغتيال فاشلة لأحد القضاة، وتداولت مصادر عديدة أن بانصيب اعترف بتنفيذ 28 عملية اغتيال أغلبها لضباط في الجيش والأمن.
وتُتّهم أطراف غربية بمحاولة ابتتار حضرموت من اليمن، واستغلال ثروتها النفطية، في حين تتهم السعودية بالسعي للحصول على منفذ لنقل نفطها عبر حضرموت الى البحر العربي.
حضرموت و”الحراك”
تنشط في حضرموت مكونات مختلفة في “الحراك الجنوبي”، وإليها ينتمي أبرز قادته، يتقدمهم نائب الرئيس اليمني السابق علي سالم البيض، ورئيس “المجلس الأعلى للحراك” حسن أحمد باعوم، ورئيس وزراء أول حكومة في الجمهورية اليمنية حيدر أبوبكر العطاس. وكانت حضرموت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ساحة لدعوات عنصرية ضد أبناء المحافظات الشمالية، إذ أُحرقت العديد من المحال، وجرت مضايقات أجبرت البعض على ترك حضرموت، ما أثار استهجان رموز اجتماعية وعلمائية في المحافظة.
وفي يناير/كانون الثاني 2013 شهدت حضرموت ولادة أول فصيل مع عرض عسكري رمزي، بحضور رئيس مجلس الحراك في المحافظة، أحمد بامعلم، لمناسبة الذكرى السادسة لدعوات “التصالح والتسامح” الجنوبي.
حلف القبائل
مع نهاية العام 2013، برزت قوة جديدة إلى المشهد، وهي “حلف قبائل حضرموت” الذي صعد عقب مقتل شيخ قبائل الحمحوم سعد بن حبريش، في نقطة أمنية تبادل فيها مرافقوه والجنود إطلاق النار.
عقب الحادثة، اجتمع ممثلو القبائل في مؤتمر “وادي نحب” بتاريخ العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2013، وشكلوا رئاسة للحلف، مطالبين الدولة برفع النقاط والمعسكرات وتسليم أمن المحافظة لأبنائها، وكذلك حماية الشركات النفطية. كما أعلنوا عن “هَبّة حضرمية” في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن السلطات احتوتها بتأليف لجنة للتفاوض.
وقام مسلحو الحلف بعملية حصار للشركات النفطية في قطاع “المسيلة”، كما تبنوا خلال الشهرين الماضيين، عمليات مسلحة ضد الجيش والأمن، قبل إعلانهم قبول نتيجة “تحكيم” من الدولة، مبلغ مليار ريال (أقل من 5 ملايين دولار) و202 بندقية كلاشينكوف و20 سيارة، وفق ما يعرف في العرف القبلي بـ”العَدال” كضمان لتنفيذ الحكم، إنهاءً لقضية مقتل بن حبريش.
لكن الحلف عاود منذ حوالي أسبوعين، حشد مسلحيه للانتشار مجدداً، بعد تأخر الحكومة في دفع مبلغ “العدال”.
حضرموت و”القاعدة”
في خريطة الحضور المتعدد للجماعات النشطة في حضرموت، يحتل “القاعدة” مكاناً بارزاً، إذ إن حضرموت هي موطن أسامة بن لادن، الذي كان يأمل أن يتخذ منها قاعدة له بعد انتقاله من أفغانستان.
وشهد العام 2002، أول عملية ارهابية في حضرموت، اذ تم الهجوم على ناقلة النفط الفرنسية “ليمبورج” قبالة ميناء الضبة. ومنذ بداية المرحلة الانتقالية، نهاية 2011، شهدت حضرموت العديد من العمليات لـ”القاعدة”، ومواجهات بين قوات الأمن والجيش وبين مسلحي التنظيم، وكذا العديد من ضربات “الدرونر” (الطائرات الأميركية من دون طيار).
ويتوقع محللون استمزج “العربي الجديد” آراءهم، أن تتصاعد المواجهة في حضرموت مع عناصر “القاعدة” خلال الفترة المقبلة، في حين يُتوقع أن يسود هدوء نسبي، النزعات الأخرى.
بنغازي اليمن
النفط، عمليات الاغتيال الغامضة، هجمات القاعدة، نزعات الحكم الذاتي.. كل ذلك يجعل من وضع حضرموت شبيهاً بالوضع الراهن في بنغازي ليبيا. وقد دفع ذلك مراقبين إلى اعتبار أن التشابه مؤشر على فرضية وجود دوافع لقوى دولية لها علاقة بالتدهور الأمني، وتدفع لإفشال الدولة لتنفيذ أجندة ما.
العربي الجديد