منذ نشوء الحركة الحوثية كان العنف والفوضى ملازمين لكل أنشطتها، ووجودها، فحيث ما حلت الحركة كان العنف والدماء بمثابة الإعلان عن التدشين الرسمي للحركة في هذه المنطقة أو تلك. وكل هذا يعني بأن حركة الحوثي تحمل في أحشائها بذور للعنف والفوضى. ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة الحركة وتركيبتها، فهي في الأساس حركة عسكرية، تمارس العنف والقوة للحصول على السلطة، والانفراد بها.
وتعمل التركيبة الداخلية للحركة على تبنيها للعنف، فهذه التركيبة أشبه بالتركيبات الخاصة بالمنظمات السرية، فليس هناك من هيئة قيادية عليا واضحة المعالم ومحددة الصفات والصلاحيات، فالسلطة كلها مختزلة في شخص الزعيم، وكل القادة والمسؤولين في الحركة لا يحملون صفة تنظيمية واضحة، وهم أشبه بمساعدين للزعيم، أو منتدبين من قبله لمهمات محددة، تنتهي سلطاتهم حين انتهاء هذه المهمة. ووفقا لهذه التركيبة فلا وجود لأي آلية من آليات الانتخاب لاختيار الزعيم وبقية أفراد القيادة، حتى بشكل صوري، كما يحدث في الحركات والنظم الشمولية، الشيوعية والفاشية، والتي تعقد انتخابات صورية لقياداتها. كما يحدث في كوريا الشمالية، النموذج الأكثر تطرفا لهذه الأنواع من الأنظمة. وهذه التركيبة تجعل الحركة مثار للتوجس من جميع الأطراف الداخلية والخارجية، الأمر الذي يجعل هذه الأطراف في حالة استنفار عسكري تجاه الحركة.
ويزيد من هذا التوجس غموض أهداف الحركة وأجندتها السياسية، فالحركة لم تعلن ولا تعلن عن أهدافها ومشاريعها السياسية بشكل كامل، وكل ما تقوم به عمليا هو السيطرة على الأرض وممارسة السلطة المطلقة في المناطق التي تُــخضعها. وتتم هذه السيطرة والخضوع تحت ستار كثيف من الحجج المليئة بالغيبيات والتأويلات الدينية والتاريخية التي تصيغها لخدمة مآربها. وغموض الأهداف والمشاريع الحقيقية للحركة أمرا ضروريا ومقصودا من قبل الحركة، فهي لا تستطيع أن تعلن عن أهدافها ومشاريعها الحقيقية بشكل صريح وعلني، حيث لا يعقل أن تصرح الحركة بأنها تسعى لإقامة دولة دينية على نمط دول القرون الوسطى، وهي الدولة التي تسعى بالفعل إلى تأسيسها في المناطق التي ستسيطر عليها. فإعلانها الصريح بإقامة هذه الدولة – وإن كانت تمارسها عمليا في المناطق التي تخضع لسيطرتها المطلقة في صعدة وبعض أجزاء من محافظة عمران – يستفز قوى داخلية وخارجية لا تريد الحركة أن تستفزها في الوقت الحالي على الأقل. ولهذا فإن حركة الحوثي تُـبقي على مشروعها الحقيقي غامضا أو على الأقل غير معلن.
ومع أنها لا تعلن عن أفكارها ومشاريعها، إلا أنها بشكل من الأشكال، تقوم بنشر أفكارها ضمن نطاق ضيق، خاصة في الجانب المتعلق بالحشد والتجنيد، فالحركة بحاجة لأفكارها وخرافاتها كوقود فكري ضروري لخلق الأنصار الخلص، والتي تقع على عاتقهم مهمة القتال والموت في سبيل الحركة، والطاعة العمياء لزعمائها. وهذه الفئة من الأنصار تُـصطفى من المراهقين والأميين من أكثر مناطق اليمن تخلفا وفقرا؛ حيث يسهل صياغة وتعبئة هذه الفئات واستخدامها. فبموجب تلك الأفكار الخالية من العقل والمنطق يتم صياغة أكثر الأنصار ولاءً وحماسةً، وهذه الحالة ليست خاصة بالحركة الحوثية، بل أنها حالة عامة تقريبا؛ حيث أن التجربة التاريخية تشير إلى أن أكثر الأنصار أخلاصا واستعدادا للتضحية هم أعضاء الحركات البعيدة عن العقل والمنطق.
ويعمل الفكر الذي تعتنقه الحركة على تأسيس نظام شمولي صارم يرفض التعدد، والتنوع، وإقامة نظام كهذا يستلزم بالضرورة استخدام العنف لفرض مثل هكذا نظام. وهذا العنف يولد بالضرورة أيضا عنفا مضادا، والنتيجة المنطقية هي حالة من الدائرة المفرغة من العنف والعنف المضاد.
أن توليد الحركة للعنف والفوضى لا يرجع إلى دوغمائيتها[i] الفكرية وشموليتها السياسية فقط، ولكنه يرجع أيضا إلى أنها تستحث أكثر الأطراف غلوا وتطرفا في الضفة الأخرى من المعادلة، ونقصد بهؤلاء الجماعات السلفية والجهادية من قبيل تنظيم القاعدة والحركات الشبيهة به. فوجود الحركة الحوثية وتوسعها المستمر يعمل على تقوية هذه الجماعات ويوجد لها الكثير من الدعم والأنصار من داخل اليمن وخارجها. حيث تجد بعض القوى السنية اليمنية وغير اليمنية في الحركات السنية المسلحة (القاعدة وشبيهاتها) المعادل الموضوعي القادر على مواجهة الحركة الحوثية والحد من سيطرتها، خاصة في ظل ضعف وتراخي السلطة المركزية في التصدي للحركة الحوثية، وهو ما يؤدي إلى قيام هذه القوي، ومنها بعض الدول في الإقليم، بدعم الحركات السنية المسلحة، الأمر الذي يعمل على زيادة منسوب العنف والفوضى في اليمن. فالجماعات السنية المتشددة تستفيد من هذا الدعم لتنفيذ أجنداتها الخاصة عن طريق استخدام العنف، ليس فقط في مواجهة الحوثيين ولكن في إخضاع الآخرين لهيمنتها.
ومثلما تعمل الحركة الحوثية على انتشار وتقوية الجماعات المسلحة السنية، تعمل هذه الجماعات على تقوية الحركة الحوثية وتمنحها المبرر والإدعاء بأنها تدافع عن نفسها من خطر الجماعات السنية. ومحصلة كل هذا؛ هي أن كل طرف يتغذي من وجود الطرف الأخر، فالجماعات السنية المسلحة تبرر وجودها ونشاطها بالإدعاء بأنها تدافع عن "أهل السنة والجماعة" من خطر "النواصب" فيما الحركة الحوثية تبرر وجودها ونشاطها بالإدعاء بأنها تدافع عن نفسها وطائفتها من خطر "التكفيريين". وكل هذا يعني وقوع المجتمع ضحية لعنف هذه الأطراف المتطرفة.
وهناك سبب إضافي يجعل الحركة الحوثية مصدرا للعنف والفوضى الدائمة؛ ويرجع إلى استحالة نجاح الحركة في تحقيق أهدافها ومشاريعها السياسية. فقيام دولة قروسطية في القرن 21 أمرا شبه مستحيل، فلا يمكن لمعظم اليمنيين أن يقبلوا بنظام سياسي يحكمهم وفق نظرية الاصطفاء ألسلالي، التي هي مركز الفكرة الحوثية ومصدر وجودها. كما أن العالم الخارجي، وتحديدا المحيط الإقليمي، لن يقبل بقيام هكذا دولة. ونتيجة لذلك؛ فإن الحركة الحوثية لا تملك أي فرصة لأن تحكم اليمن وتستفرد بحكمه. وهذه النتيجة تعني بأن الحركة الحوثية ستبقى مولدة للعنف والفوضى بشكل دائم، إلى أن يتم استيعابها أو القضاء عليها.
ولن يتم استيعاب الحركة الحوثية عبر الوسائل السياسية، كما يحلم البعض، فالطبيعة المسلحة للحركة، وبنية السلطة فيها، وفكرها الدوغمائي، يحولون دون تحولها إلى حزب سياسي عادي، يمارس نشاطه بأجندة واضحة، وبالوسائل السلمية، وضمن القواعد القانونية والدستورية. ومطالبة الحركة بالتحول إلى حزب سياسي هي مطالبة غير مجدية وغير واقعية كونها تتناقض وطبيعة الحركة، فالتحول هذا يفقدها مقومات وجودها. فعلى سبيل المثال لو أن حركة الحوثي تخلت عن نشاطها العسكري ومليشياتها، فإنها ستتحول إلى نسخة أخرى من (حزب الحق)، وهو مصير لا أعتقد أن أحدا في الحركة يرغب في التفكير به.
وبما أن واقع الحركة على الشكل الذي ذُكر؛ فإنها لا بد أن تدخل في صراع ومواجهة مع الحكومة المركزية، ومع جميع القوى والتيارات السياسية الأخرى. وهذه النتيجة تعني بأن الحركة الحوثية لا بد وان تصبح حركة محظورة، وفي صدام عسكري مع إي حكومة عادية، فلا يمكن لحكومة طبيعية أن تتعايش مع حركة مسلحة كحركة الحوثي، أو القاعدة أو غيرها، والتعايش مع مثل هكذا حركات يعني استمرار العنف والفوضى.
من كل ذلك نصل إلى خلاصة تتمثل في أن الأمور تنحصر في سيناريوهين هما: قيام الحكومة المركزية بمواجهة الحركة الحوثية وحظر نشاطها، وفي هذه الحالة فإن الأسلم لليمن أن يتم ذلك بالتزامن مع قيام الحكومة بمواجهة الحركات المسلحة السنية وحظر نشاطها أيضا. والسيناريو الأخر استمرار الوضع على ما هو عليه، وهو ما يعني المزيد من العنف والفوضى في اليمن.