لم نلتفت كثيراً لعددٍ من المحادثات التليفونية، الواردة من جهات مخابراتية إسرائيلية، والتي تأمر بإخلاء البيت لأجل قصفه وتدميره، كونها مسجلة وتذاع للكثيرين من السكان في أنحاء القطاع، ولأنها لا ترتبط بمدة محددة، ونسخر جهدنا أيضاً حينما يُتاح للمخابرات الإسرائيلية اختراق موجات لإذاعةٍ فلسطينية ما، لتتمكن من خلالها بث إشاعات وتحذيرات مختلفة، وسواء في شأن طلبها من المستمعين بالرحيل والانتقال من المنطقة التي يعيشون فيها، أو بشأن التحذير من المساعدة لعناصر المقاومة أو تقديم سبل الحماية اللازمة لهم وأشياء متعلقة أخرى، وهي تأتي ضمن الحرب النفسية التي تشنها أجهزة المخابرات الإسرائيلية، بهدف النيل من الجبهة الداخلية الفلسطينية أو ضعضعتها على الأقل، لكن محادثة إسرائيلية مباشرة وشبه محددة، بأن علينا إخلاء البيت، هي التي تملّكتنا جيداّ وأفقدتنا صبرنا، وجعلت تنفيذ الأمر في الدرجة المؤكدة، بأن البيت سيتم تدميره خلال اللحظات القادمة.
لم نقم بإخلاء البيت لوحدنا، بل سعي الجيران أيضاً في إخلاء منازلهم أيضاً والابتعاد عن المكان، وعلى الرغم من ذلك ومنذ الوهلة الأولى، كان إيماننا بأننا وبيوتنا لسنا أفضل ممن دُمرت بيوتهم وفقدوا مقدراتهم وكل شيءٍ لديهم، وليست أرواحنا أيضاً بأخير من أرواح أولئك الأحياء عند ربّهم، الذين سبقونا إلى منازل الشهداء في العلا.
الكل يعلم بأن تطورات الحرب لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عموماً، لتصل إلى هذه الشاكلة الرهيبة، لم تنتج بين ليلة وليلة، بل نتجت عن دراسات مستفيضة، وإن كانت مُخالفة، لهدف جعلها أمراً ضاغطاً وانتقامياً في آنٍ معاً، علاوةً على أنها وسيلة لاستغلال أجهزة الجيش لها في إرضاء المتطرفين والمتشددين اليهود الداعين إلى الفوز ولو بانتصارٍ واحد، ومن ناحيةٍ أخرى ترطيب مشاعر الغضب بين الإسرائيليين بشكلٍ عام.
كانت إسرائيل قد اعتمدت تلك الوسيلة الأصعب، ضد أناس ليس لهم من العدوان في شيء، فقط لأنهم قاموا بعملٍ ما، ربما بسبب صلتهم بمطلوب أو بمساعدته في طعام أو شراب أو مجرد معرفة فقط، وخاصة خلال الأيام الأخيرة من العدوان، كون فراغ الجيش من تدمير كافة الأهداف الرسمية المسجلة في أجندته، وكانت نُسخت عائلات فلسطينية بأكملها من السجلات المدنية نتيجة موتهم دفعةً واحدة بفعل تفجير بيوتهم على رؤوسهم بغير التفات لأحد، وكانت هناك المزيد من المشاهد المؤلمة والتي تشيب لهولها الولدان، وتضع كل ذات حملٍ حملها.
ومع أن العدوان ذاته كان همجياً في سلوكه ومعناه، إلاً أن السياسة الإسرائيلية في شأن الحرب النفسية – الإيجابية- التي أقدمت على تنفيذها، كانت مفاجئة وصاعقة أيضاً، إذ لم يتوقعها أحد، بناءً على مجريات العدوانين الإسرائيليين الماضيين 2008/2012، ولا في أيّة تعديات أخرى سابقة.
وعلى أيّة حال، لا يهمنا البيت ولا بقية البيوت الأخرى التي احتمال أن تتضرر من جراء القصف وعملية الهدم، وأن إعلان الهدنة لـ 72 ساعة، ربما هو الذي ساهم في بقاء البيت على حاله وعودة الجيران لبيوتهم، بعد ساعات صاخبة، وإن كانت تلك العودة بحذر، لكن الذي يدعونا إلى الانتباه أكثر، أن لا أحد يتكلم في شأن هذا النوع من العدوان الذي تغلب على مجرياته الهمجية والبربرية التي يعتمدها قادة الحرب الإسرائيليين.
كان مطلوبٌ من الكل وعلى المستويين العربي والدولي، أن تكون لهم مواقف شديدة وحاسمة، من أجل التوقف عن مثل هذا السلوك، وبيان انعكاساته ليس ضد الساسة والعسكريين بل على إسرائيل بعمومها، سيما وأننا رأينا استطلاعات إسرائيلية متقدمة، تدعو إلى انتهاج مثل هذه السياسة، بسبب أنها تلقي الرعب المطلوب في نفوس الفلسطينيين من أن يستطيعوا الصبر ساعة من نهار.
لسنا منزعجين كثيراً من الخطر الآتي من عدم وجود اتفاق هدنة ينهي العدوان الإسرائيلي القاتل، أو أن تعود إسرائيل إلى أعمالها التخريبية، بسبب أنها ستدفع الثمن من نفسها وأموالها غالياً، وفي النهاية ستجد من يوقفها، وإن بالمعاملة بالمثل، سيما وأن المقاومة وعلى رأسها حماس القسام، قادرة على أن تتطور وتنمو سريعاً في هذا الاتجاه، وظننا هنا، أن الأمر بالفعل قد يحصل تماماً إذا لم تمتنع إسرائيل، عن الإقدام على مثل هذ السلوك، في حال تجدد القتال، فيما إذا فشل التقدم في المسار السياسي خلال المفاوضات الجارية في العاصمة المصرية.
قادة إسرائيل يوقنون بأن النجاحات التي يودون تحقيقها، لا تكتسب بحروب نفسية وانتقامية، وإن كانت لها تأثيرات تعمل بجد أحياناً فقط، وأن التحذيرات التي جاهدت في نشرها ومضاعفتها في الآونة الأخيرة من العدوان لا زالت تعتمدها وبشدّة أكبر. ولذلك فإن من الواجب على من يمتلك المفاتيح – وهم العرب- الوقوف بحزم ضد النشاطات الإسرائيلية الشاذّة بسبب علاقاتهم الجيدة مع قادة إسرائيل، الذين بأيديهم الرضوخ للطلب - رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" ووزير حربه "بوغي يعالون"، وزير الشؤون الدولية والاستراتيجية والمخابرات "يوفال شتاينيتز"- كونهم يملكون اللسان الذي يصدر الأمر بالكف عن ذلك السلوكيات الإجرامية المحرّمة.
إن التهديد بهدم البيوت أو التحذير بهدمها، ولا ريب، يتعارض وميثاق جنيف وأنظمة لاهاي، كونه عقاب جماعي صرف، يلقي بظلاله القاسية على أصحابها وعلى جيرانها أيضاً، والاقتصاد بشكلٍ عام، علاوةً على أنه لم يثبت بأنه وسيلة رادعة، أو أنه سيمنع مزيداً من عمليات المقاومة خلال المواجهات القادمة، وقد أعذر من أنذر.
خانيونس/فلسطين