نحو أربع سنوات والمجتمع اليمني ينزلق لتبعات وإفرازات الربيع العربي، فحدة الانقسامات والاستقطاب في النسيج الاجتماعي دفعت الى نشوب نمط من النزاعات ذات طابع اجتماعي طائفي ومذهبي، ما ساعد على بروز وصعود حركة «أنصار الله» التي استطاعت استقطاب البعض رغم اسلوب العنف الذي تنتهجه.
الرئيس السابق يمثل لولب الأحدث المأساوية، فلم يكتف بالحصانة ونهب الأموال، بل ظل يمثل رقما أساسيا في المشهد اليمني، بحيث اصبحت القيادة برأسين، وفي الوقت الذي نجح في تقسيم المجتمع سياسيا، تمكن أنصار الله بنهجهم المتطرف وأساليب العنف أن يقسموا المجتمع مذهبيا ومناطقياً.
لقد تجرع الشعب اليمني الأمرين من فساد الحكومات المتعاقبة، وما فشل آخر حكومة مقالة إلا نتاج فساد متراكم لعقود مضت، قد لا يمكن إصلاحه بسهولة، وهو الأمر الذي جعل الكثير من محافظــــات شمال الشمال يرحبون بأي رؤية مغايرة، الأمر الاخر أن اجتـــياح صــــنعاء لا يعكس بأي حال قوة «انصار الله» ولا حتى صواب رؤيـــتهم، فكل الأحزاب والحركات على مدى التاريخ تحمل مبادئ معلنة براقة وتأتي غالبيتها بحلول نظـــرية لا تمــــت للواقع بصلة، وقد استغل هؤلاء ضعف الدولة وتصارع أركانها والأحقاد الشخصية للاعبــين الأساسيين الذي كانوا متحالفين بالأمس ومختلفين اليوم، والعكس صحيح فـ«أنصار الله» قفزوا لواجهة الأحداث بمساعدة ابرز خصومهم، ومن قتل قائدهم، لكن السياسية تتغلب على العقيدة والايديولوجيا.
ومهما يكن من أمر فسوء إدارة الرئيس هادي وفشل مساعديه، خلق مبررا لزحف «الحوثيين» تجاه العاصمة، واحتلالهم مفاصل الدولة بما فيها القوات المسلحة والبنك المركزي والإذاعة والتلفزيون، وتحول هادي في بضعة ايام من رئيس شرعي إلى موظف لدى «أنصار الله»، ويذكرنا ذلك بالجيش (الانكشاري) في القرن الاخير من عهد الدولة العثمانية، حيث كان يتحكم في قرارات السلطان العثماني، مع الفارق ان هادي اشد وهناً، فتصريحاته بأن ما جرى هو مؤامرة، اذن كيف يقر بهذه المؤامرة ويوقع في الوقت نفسه اتفاق سلم وشراكة مع أصحاب المؤامرة.
وعجبي لمن يكابر ويقول ان ما جرى ثورة وليس انقلابا على الاتفاقات والتشريعات السابقة، وندينهم من أفواههم، فالناطق باسم الحوثيين يقول غداة إسقاط صنعاء «إن المبادرة الخليجية ولت إلى غير رجعة» مفتتحا بذلك عصرا جديدا لليمن، لقد تحرر من التبعية للرياض ولكنه انتقل لطهران!
الأمر الآخر تطور الأحداث في صنعاء انعكس على مزاج الحراك الذي كاد او ايقن بمخرجات الحوار على مضض، ولكنه عاد للواجهة بعد انقلاب الحوثيين، وها هم اعطو سلطات صنعاء مهلة الى أواخر نوفمبر/تشرين الثاني لتقرير المصير وفك الارتباط. استيلاء «أنصار الله» على السلطة بقوة السلاح قلب الموازين وقلب الطاولة ومن عليها، وفرض امرا واقعا من ضمنه إمكانية فصل الجنوب وإعادة النظر في الفيدرالية التي كانت قد قوبلت بردود افعال غير متحمسة من القوى الرئيسية، المؤتمر والحوثيين والحراك.
الرأي العام يفهم ويدرك جيدا تسريبات بعض الابواق حول ما جرى ويجري، فالمحافظات الوسطى كانت آمنة، قبل ان تهجم عليها جحافل «انصار الله»، وتدرك ما تعني كلمة لجان شعبية، فمنطقيا اللجان الشعبية تشكل من أهالي كل منطقة وليس لها حاجة في حال عدم وجود قوات مهاجمة تزحف من صعدة إلى كل المحافظات، وتوقع هذه الحالة من التشرذم المجتمعي في يمن ما بعد سبتمبر 2014 لم يكن ضربا من الخيال او المبالغة، فطالما حذرت دراسات محايدة منطقية من الوصول لحالة كهذه، ولم تكن تلك نبوءة، كما انها ليست قدرا محتوما بقدر ما هي قراءة في سياق متواصل من الفشل افضى في نهاية الأمر الى خاتمة معلومة على النحو الذي نشاهده اليوم، فقد غدت حقائق وأحداثا يومية لوجستياً في أكثر من محافظة في اليمن ابتداء من صعدة مرورا بعمران صنعاء والحديدة وانتهاء بتعز واب، فالحقيقة التي يحاول البعض رفضها باتت مجسدة بدرجة كبيرة تفرض نفسها في جغرافيا ما بعد الربيع العربي، سواء في اليمن او بلدان عربية اخرى عصفت بها ثورات الربيع العربي.
لامناص من ان المواقف الدولية والإقليمية تجاه ما حدث ويحدث في اليمن يخرج عن سياق المعلن، فقد غدا اليمن والمنطقة عموما ضمن لعبة الامم وإستراتيجية دولية تتجدد صيغتها، وفقا لمتغيرات لوجستية وعملية، منذ مطلع الستينيات، وثمة رؤيتان وخطان للسياسة الأمريكية تجاه جنوب الجزيرة العربية الاول، استنزاف القوى الداخلية والإقليمية، وهي الإستراتيجية البديلة لسياسة الاحتواء، وآلية انتهجتها واشنطن تجاه كل من بغداد وطهران بعد الثورة الإيرانية، واتبعت ربما في أكثر من بؤرة في العالم، وقد قامت تلك الإستراتيجية على خليط من الاجراءات العسكرية والاقتصادية، بهدف انهاك الطرف الآخر لدفعه للاستسلام، غير ان هذا النمط توارى بعد ان اثبت فشله، لاسيما بعد شن الحرب على العراق التي كلفت واشنطن ماديا وبشريا. وهو الأمر الذي دفع الغرب وواشنطن تحديدا الى اعادة ترتيب النظام الإقليمي، بإعادة ترتيب صياغات كيانات مقسمة، أي تقسيم المقسم اصلا، وهو الذي بدأ عمليا في أكثر من بؤرة عربية، كردستان العراق.. وبنغازي في ليبيا.. والفيدرالية المقترحة في اليمن، التي رغم إقرارها، فإن جميع المتحاورين في الحوار الوطني كانت لهم رؤى مختلفة حولها، ويبدو ان الأحداث الأخيرة ستعيد صياغة الرؤية للتقسيم، ربما على أساس طائفي، بحيث يختزل تقسيم اليمن الى ثلاثة أقسام عوضا عن ستة أقاليم، اقليم يضم المحافظات الزيدية مع ساحل البحر الأحمر، وآخر يضم المحافظات الوسطى والجنوبية، وثالث يضم حضرموت، ومحددات الواقع وما يجري على الارض تشير إلى ذلك، فلوجستيا يتجه «أنصار الله» لتحقيق ذلك لإثارة أحلام الحراك الجنوبي مجددا لتقرير المصير، خلافا للتصريحات المعلنة لهم التي تشير إلى عكس ذلك.
٭ كاتب يمني