الكسل الذهني والمعرفي، وسوء الفهم والتعصب، معضلة اليمنيين الأولى. لا شيء اصعب علينا من إخضاع ذواتنا، وتصرفاتنا، ومواقفنا، للنقد والتقييم المستمر، والتحلي بفضيلة الشك وحتى التناقض، عوضا عن الرضا الدائم عن النفس والعناد والمكابرة على الخطأ.
مثلا، لماذا لا نعيد النظر في موقفنا المناوئ للمساعي الخليجية وحتى لفكرة الحل السياسي والتفاوض من الاساس، طالما كان في مجمله يلبي تطلعات الشعب اليمني أيا كان مصدره؟
هناك اعتقاد سائد، لا سيما في أوساط التيارات التي يمكن وصفها بالمدنية والداعية إلى التحديث والانتقال الديمقراطي والمناهضة للدور السعودي، مفاده أن الحل السياسي سواء عبر المقترحات الخليجية أو عبر التفاوض المباشر، إلى جانب أنه يتنافى مع كلمة "ثورة"، سيؤدي إلى إعادة تمكين أدوات النفوذ السعودي والقوى البالية نفسها على حساب مكونات وقوى التحديث والمدنية.
فمن وجهة نظر هؤلاء، أن التصعيد المتمثل في الزحف، هو السبيل الوحيد والأمثل لإجهاض المبادرات وقطع الطريق على أية مساعي وحلول سياسية، وبالتالي حسم الثورة وإسقاط النظام بمنأى عن أي عملية سياسية.
مع تقديري لهذا النوع من الطرح، وهو بالمناسبة ليس جديدا بالمرة، إلا أنني أرى عكس ذلك تماما.
تتلخص فكرتي في أن التصعيد الثوري الراديكالي المؤدي إلى خلق حالة من الانسداد السياسي التام، معناه أننا جعلنا من فكرة الصدام المسلح بين قوى النظام المنقسمة على الجانبين أمر حتمي، أي انتقال الكلمة الفصل لهذه القوى في الميدان الذي تبرع فيه وتمتلكه.
ما الذي يترتب على ذلك؟ مصادرة الثورة باختصار.
فمن شبه المؤكد أننا سنجد أنفسنا إزاء احتمالين: أن يتمكن أحد هذه الأطراف، وكلاهما يمتلك المال والسلاح والمهارة القتالية، من حسم الصراع المسلح لمصلحته، وليكن ذلك هو الطرف الموالي للثورة، لكن النتيجة هي إعادة تمكين القوى التقليدية المقربة من السعودية أي تلك التي كنا نقاوم تمكينها بعرقلة ورفض الحلول السياسية.
الاحتمال الثاني: دخول اليمن في حرب مفتوحة، طويلة الأمد، وفوضى، قد لا تستطيع خلالها أية قوة أن تبسط سيطرتها على البلاد وكسب المعركة لحسابها.
في رأيي أن المبادرة الخليجية -أو أي خطة سياسية تهدف للحيلولة دون وصول التوتر بين الجانبين التقليديين المدججين بالسلاح، إلى درجة الاقتتال- كفيلة بوضع النظام المنقسم بشقيه، المحتمي بالثورة والمعادي لها، في خانة واحدة تمهيدا لإزاحته دفعة واحدة، وبالسياسة أيضا.
بكلمات أخرى: الخطة السياسية لا تكتفي فقط بنزع عوامل الصدام المسلح بين القوى القديمة وأمراء الحرب، بل إنها تهدف أساسا إلى توفير الظرف العادل للمشاركة السياسية عن طريق فرض إصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي والتشريعات والنظام الانتخابي ونمط الاقتصاد، إصلاحات حقيقية يفترض أن تساهم في بلورتها قوى التحديث والمدنية.
التيارات المدنية الحديثة صوتها خافت بين نعيق الجبابرة. رأس مال هذه التيارات ومصدر تفوقها الأخلاقي هو انحيازها الكامل لفكرة اللاعنف وقيم الحرية والعدالة وحقوق الانسان، ووسيلتها الكلمة والعمل السياسي والمدني الدؤوب لنيل ثقة مجتمع لن يدفع بها إلى الصدارة إلا حينما تنجح تدريجيا في إحداث تحول نوعي في الافكار والعادات ومستويات التعليم والخطاب الديني.