الوصول إلى الأرجنتين يتطلب منذ البداية تحضيرًا جسديًا ونفسيًا كبيرين بالنظر إلى المسافة الطويلة، التي يتوجب على القاصد لها أن يقطعها قبل الوصول إليها، حيث تبعد 11000 كم عن أوروبا، مما يعني إمضاء ما لا يقلّ عن 12 ساعة بالطائرة، في رحلة مباشرة، أي من دون توقف من أحد المطارات الأوروبية إلى العاصمة بوينس ايرس.
اسم الأرجنتين يقترن منذ البداية بتنوع الثقافات والأعراق، وبتعدد الأقاليم والثروات الطبيعية والزراعية، والطقوس المدنية والجغرافية. أما وراء ذلك كله فتقف المساحة الواسعة للبلاد، وعدد السكان المرتفع نسبياً وحالة التسامح والإخاء العميقة القائمة بين مختلف شرائح المجتمع.
فالأرجنتين بلغة الأرقام والمقارنات هي ثاني اكبر دولة بين دول أميركا اللاتينية من حيث المساحة بعد البرازيل، والثالثة من حيث عدد السكان بعد البرازيل وكولومبيا، وتضم بين سكانها أعدادًا كبيرة من أحفاد المهاجرين العرب والأسبان والإيطاليين وغيرهم من الأوروبيين، الذين قصدوها منذ القرن السادس عشر بحثًا عن الذهب والفضة، ولذلك فإن اسم البلاد يعود إلى الكلمة اللاتينية أرجنتوم، وتعني الفضة، ويرجع تسميتها بهذا الاسم إلى أن أوائل المستوطنين الأسبان الذين وفدوا إليها خلال القرن السادس عشر جاءوا إليها بحثا عن الفضة والذهب.
إذ تم في كونغرس هذا الإقليم أو المقاطعة في 9 تموز/يوليو من عام 1816 إعلان استقلال الأرجنتين، الأمر الذي يجعل سكانها يفتخرون بذلك من خلال الإشارة إلى كل زائر لها بضرورة زيارة "كاسا هيستوريكا" أي البيت التاريخي للاستقلال.
"إيلاف" التي قصدت هذا المكان لاحظت تدفقًا واسعًا إليه من قبل الزوار الأجانب والسكان المحليين على حد سواء، ولاحظت الاهتمام الكبير بمختلف الجوانب الخاصة بعملية إعلان الاستقلال، بدءاً من الاحتفاظ بالكراسي والطاولة، التي تم توقيع إعلان الاستقلال عليها، وانتهاء بلوحات جدارية كبيرة وضعت على جدران المتحف تخلد لحظة الاستقلال.
تعيش في مدينة التوكومان جاليةً عربيةً كبيرةً نسيباً تمارس النشاطات الإنسانية المختلفة، ويكفي النظر فقط إلى اللوحات المعلقة في الشوارع أو أسماء بعض المحلات ليلمس الزائر طبيعة الوجود العربي الناجح فيها، فأحد ابرز المحال التجارية للألبسة في وسط المدينة يحمل اسم "بور سعيد"، تعود ملكيته إلى مواطنة أرجنتينية من أصول سورية.
فيما يعتبر الأرجنتيني أنور صدير، وهو من أصول عربية أيضًا، ملك البوظة في المدينة، التي يعيش فيها نحو 1.3 مليون نسمة، بسبب معمله الكبير ومحاله العديدة في المدينة، التي تقدم مختلف أنواع البوظة بمستوى رفيع يجعل الكثير من الأرجنتينيين يتدفقون عليها.بين المواطنين الأرجنتينيين من أصول عربية الكثير من الأطباء والمحامين والباحثين وممارسي النشاطات الحرة يحظون بسمعة رائعة بين سكان المدينة.
ويقول نوري حنا، وهو مواطن أرجنتيني من أصول عربية قدم إلى الأرجنتين قبل 17 عامًا، إن العرب منذ أن وفدوا إلى هذه الأراضي يعملون، بإخلاص وتفان، ولذلك فإنهم نجحوا في أعمالهم واثبتوا وجودهم، ونالوا ثقة مختلف الشرائح الأخرى.
حنين وتلهف لأخبار العرب
زائر مدينة التوكومان يلاحظ أيضًا وبشكل ملفت اهتمام الجالية العربية في المدينة، وعلى الرغم من عدم إتقان معظم أفرادها اللغة العربية اهتمامًا كبيراً بمتابعة أخبار العرب والتغييرات والتطورات المتسارعة فيها، ولذلك يتلهفون لسماع التحليلات والتقويمات عمّا يجري في المنطقة العربية وآفاق الحراكات السياسية الجارية فيها، إضافة إلى الاهتمام بشكل متواصل بالقضية الفلسطينية وتطوراتها.
ولا يستطيع الزائر العربي لأي مدينة في الأرجنتين إلا أن يتأسف لعدم وجود تنظيمات توحد وتنظم بين العرب في هذه البلاد، كي يكونوا قوة أكثر فاعلية، ولاسيما في الحياة السياسية للبلاد.
تنشغل الأرجنتين أو على الأقل الأوساط السياسية والإعلامية فيها بالانتخابات الرئاسية، التي ستجري في 23 من هذا الشهر في الأرجنتين، ولذلك فإن الملصقات الجدارية تطغى عليها صور الرئيسة الحالية للبلاد كريتسينا فرناندز كيرشنر زوجة الرئيس الساب،ق التي كانت قد وصلت إلى قصر الرئاسة في عام 2007، إضافة بالطبع إلى صور منافسيها، ولاسيما ريكاردو الفونسان ممثل التجمع في قيادة الاتحاد المدني الراديكالي، وهو ثاني اكبر تجمع في البرلمان الحالي.
دولة المتي والقات
أينما تحركت في الأرجنتين تجد الناس، إما يعلكون القات أو إنهم يشربون المتي، التي تشتهر فيها الأرجنتين لكونها من اكبر الدول المنتجة له، ولكون إنتاجها منه يصل إلى الدول العربية منذ عشرات السنين، ويلقى رواجًا كبيراً، ولاسيما في سوريا ولبنان، غير أنه، وعلى خلاف العديد من الدول العربية، فإن العديد من الأرجنتينيين يشربونه من "مصاصة" واحدة بدلاً من المصاصات المعدنية المخصصة له.
عفوية وانفتاح
يتصف سكان الأرجنتين بالود والانفتاح والعفوية، ولذلك فإن التخاطب بينهم يتم فورًا بكلمة أولا Hola بدلاً من كلمة طاب يومكم، التي يتعلمها الإنسان في كتب تعليم الأسبانية، كما يقبلون ويحضنون بعضهم رجالاً ونساء بشكل كبير وملفت عند كل لقاء، الأمر الذي يشعر الإنسان الآتي من طقوس أوروبا الباردة في التعامل الاجتماعي يندهش حقيقة من ذلك، لاسيما وأن كل ذلك يترافق بحالة كبيرة من الانفتاح الاجتماعي وقبول عادات وقيم الآخرين من دون أي تصنع.