بهذه الأبيات الرائعة يصدَر شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني قصيدة (من منفى إلى منفى) إحدى قصائد ديوانه الرائع جدا (لعيني أم بلقيس) ملخصا لواقع عاشه هذا الشاعر الفذ وهو الذي وُصف بـ (المبصر في الزمن الأعمى) ولُقب بـ (نبي الثورة) وهي ألقاب استحقها الشاعر بجدارة. ونحن هنا نحاول استشراف المستقبل وطرح بعض التساؤلات المهمة من خلال قراءة سريعة لهذا الديوان ومتلبسين لباس الشاعر – الذي فارق الحياة قبل أن ترى عيناه جنا غرسه – حتى لا نُتهم من قبل البعض بأنا (مندسون!) أو (بلاطجة!!) أو (عملاء للأمن القومي!!!) إلا إذا اكتشفنا – ولا حول ولا قوة إلا بالله – بأن الشاعر نفسه ينتمي لإحدى هذه الفئات.
إن المتصفح لهذا الديوان يجد أن الشاعر قد وصل مبكرا جدا إلى مرحلة اليقين بأن ثورة سبتمبر لم تحقق أي شيء قامت لأجله بل وكانت لديه جرأة المنصف المقر بالخطأ الباحث دوما عن الحقيقة والحرية له ولأبناء وطنه المنكوبين، يتجلى ذلك واضحا ومنذ البداية في عناوين قصائد هذا الديوان: (أنسى أن أموت)، (صنعاء والموت والميلاد)، (من منفى إلى منفى)، (صنعاء والحلم والزمان)، (بلاد في المنفى)، (مدينة بلا وجه)، (صنعاني يبحث عن صنعاء)، (تقرير إلى عام 71 حيث كنا)، (مواطن بلا وطن)، (لافتة على طريق العيد العاشر لثورة سبتمبر)، (أبو تمام وعروبة اليوم)، (كانوا رجالا) وهي عناوين تنضح وتضج بالمعاني الموحية بالصدمة والغربة.
يمضي الشاعر في ديوانه ساردا لموجعاته في جوقة شعرية بديعة وإحساس واعٍ مرهف:
تمتصني أمواج هذا الليل في شرهٍ صموت
فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت/
وُلدت صنعاء بسبتمبر ** كي تلقى الموت بنوفمبر/
بلادي مــن يدي طاغٍ ** إلى أطغى إلى أجفى
ومن سجنٍ إلى سجنٍ ** ومن منفى إلى منفى
ومن مستعمـــــــــرٍ باد ٍ ** إلى مستعمرٍ أخفى/
صنعاء يا أخت القبور ** ثوري فإنك لم تثوري
حاولتِ أن تتقيئي ** في ليلةٍ عفن العصور
صنعاء من أين الطريق ** إلى الرجوع أو العبور؟
يا شمس صنعاء الكسول ** أما بدا لك أن تدوري؟/
حيث كنا كما أراد الإمام ** كل دعوى منا علينا اتهام
غير أنَا وبعد تسعٍ طوالٍ ** حيث كنا كأنما مرَ عام
كلما جدَ أننا قد كشفنا ** أوجهاً دلنا عليها اللثام
الغزاة الذين يوما تلاشوا ** بقوانا لهم علينا اقتحام
والأباة الذين بالأمس ثاروا ** أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعبٍ ** قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن ** هل يحسون كيف ساء الختام؟/
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتِ؟ ** مليحة عاشقاها السل والجرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت ** في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب/
أيها الآتي بلا وجهٍ إلينا ** لم تعد منا ولا ضيفا لدينا
سترانا غير من كنا كما ** سوف تبدو غير من كنا رأينا/
أزقة البترول تمتصنا ** تبصقنا للريح أو تهضم
والسيد المحكوم في داره ** في دارنا المستحكم الأعظم
بلادنا كانت وأبطالنا ** كانوا رجالا قبل أن يحكموا
ثاروا صباح القصف لكنهم ** يوم انتصار الثورة استسلموا
وبعد عام غيروا لونهم ** وبعد أيام نسوا من هموا
يا موطني من ذا تنادي هنا؟ ** أسكت.. لماذا؟ أنت لا تعلم
إن طويل العمر لا يرتضي ** حباً ينادي أو صدى يلهم
ترون أن أنسى يمانيتي ** كي يطمئن الفاتح الأغشم
إن المطلع على تأريخ اليمن الحديث وعلى سير الأحداث منذ خروج العثمانيين تحديدا وحتى العام 1962م والمرحلة اللاحقة وصولا إلى بداية الثورة الشبابية والمدرك لطبيعة القوى الحاكمة في اليمن يدرك بالضرورة سلسلة الأخطاء الفادحة التي وقع فيها ثوار الأمس ابتداء بعدم تبلور مشروع التغيير في أهداف واضحة محددة (مرت عشر سنوات ولم تفتتح مدرسة أو تشق طريق حسب مذكرات الشيخ سنان أبو لحوم!!!) ثم ترك زمام الأمور وتسييرها بأيد خارج البلد والتي كانت لها دوافعها، وفي المقابل الارتهان لأطراف لها حساباتها الشخصية ومصالحها الذاتية الآنية التي هي أبعد ما تكون عن مصالح الناس، وأخيرا قبول القوى التقليدية المحافظة (والتي أعادت إنتاج نفسها بأشكال مختلفة حزبية ومؤسسية ودينية وغيرها) دون استيعابها أو هضمها، بل على العكس من ذلك كانت هي الفاعلة والمسيطرة وهي التي أوصلت البلد إلى ما هي عليه اليوم. فهل يا ترى يعيد التاريخ نفسه في هذه اللحظة؟ وهل سنثور اليوم لنقتلع دكتاتورا وندع من أوصله؟ أو ليحكمنا آخرون بنفس عقليته؟ وهل من كرس وأرسى وضعاً نثور عليه اليوم هو من نرتجي منه نصرا لمطالبنا؟ وهل ثورتنا مجرد إزالة لأشكال وهياكل مهما كبرت؟ هل ثرنا بسبب عدم نزاهة انتخابات فقط؟؟؟ أو بسبب مشروع توريث الرئاسة فقط متناسين كل مشاريع التوريث الأخرى للبلاد والعباد بل وحتى المناصب دون الرئاسية؟ وهل..؟ وهل...؟ وهل....؟
إن المحتم على شباب الثورة إن كانوا ينوون التغيير فعلا أن يمتلكوا ما امتلكه شاعرنا الكبير من جرأة لنقد الذات والثقة بإمكانياتهم – لا ليثيروا الانشقاقات – وإنما على أن يفرضوا الفعل التغييري وأن يعملوا على استيعاب وهضم كل القوى المنضمة – لا أن يتحولوا إلى أدوات بأيديها – برؤية واضحة ووعي سياسي وأن يضمنوا تحقق أدنى حد من مطالب التغيير الجوهرية من مثل: حرية الصحافة، حرية العمل السياسي، استقلال القضاء، حرية الحصول على المعلومة، تصحيح واقع التعليم، معرفة مسؤولية كل صاحب عمل أو وظيفة، فمن الكارثي مثلا أن يعاملك من يفتشك أو يرافقك ويناضل معك في الساحات بنفس عقلية المخبر التي ثرنا من أجل قلعها وغيرها وغيرها، حتى يضمن الشباب مستقبلا أفضلا وإن لم يقودوا زمامه ابتداءً. وأن لا يكون حالهم كما تفضل الدكتور المتوكل (قلع بصلي وغرس ثومي) ولكي لا يصلوا إلى ما أبكى شاعرنا البردوني أو ينطبق عليهم وعلى ثورتهم المثل الشهير جدا (الثورة يخطط لها العباقرة وينفذها الأحرار ويستولي عليها ....!).