أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

التسول السياسي وإرث العمالة

- د.محمد عبدالله عايض الغبان.

بعد سقوط الدولة العثمانية تكالب المستعمرون على بلداننا ومزقوها شر ممزق، ورسموا لها حدودا اعتباطية في اتفاقية بينهم تعرف باسم – سايكس بيكو- وتوهموا أن السيطرة على هذه الشعوب وخيراتها ممكن وسيطول أمده، كون هذه الشعوب بدائية في نظرهم وغير مؤتلفة، وتعيش صراعات طائفية ومذهبية، وتفتقر إلى القوة العسكرية الحديثة، لكنهم تفاجئوا بأن هذه الأمة لا يزال فيها رمق من حياة، وأن دينها الإسلامي يحول بينها وبين الخضوع والخنوع للأجنبي، وساعد على ذلك قيام أهل العلم بشيء من واجبهم تجاه أمتهم، وتصدرهم للمقاومة وكتائب الجهاد، وقد أبلوا في هذا الصدد بلاء حسنا حتى استطاعوا بفضل الله تعالى أن ينالوا من أعدائهم ويكسروا شوكتهم، حينها ظهرت لهم الحقيقة جلية، وهي أنهم غير مقبولين وغير مرحب بهم في بلدان المسلمين التي تنظر إليهم على أنهم كفار، يعادون شريعة الإسلام، ويطمعون في خيرات بلدانهم، ولا يريدون بهم خيرا، أدرك المستعمرون هذه الحقيقة، ورأوا أن خير وسيلة لبقاء منهجهم واستحكام نفوذهم ونشر ثقافتهم في بلداننا يكمن في تدريب واستقطاب بعض فئات المجتمع، من المتأثرين بهم السائرين على طريقتهم في الحياة والمتقمصين لمناهجهم الفكرية والعقائدية والاجتماعية، فربوهم وأحسنوا تربيتهم حتى وصلوا إلى حد النضج تعلقا وإعجابا بهم إلى درجة جعلتهم مطايا في تنفيذ ما عجزوا عن تنفيذه ولو على حساب شعوبهم ودينهم الذي ينتسبون إليه، عندها آثروا الانسحاب ليكمل مسيرتهم أولادهم بالتبني الذين لم يألوا جهدا في السير على الخطة المرسومة لهم بكل جدية وحرفية وتبعية مطبقة، وعاثوا في أرض الله فسادا متنكرين لدينهم وأمتهم، وأوحوا إلى زبانيتهم واحيطين بهم بأن الانفتاح على هذه الأمم هو السبيل الأوحد للتقدم والازدهار والحضارة، وليتهم تقدموا وازدهرت بلدانهم بل كان تقدمهم عبارة عن تفسخ الأخلاق وضياع القيم والقضاء على كل المنجزات الحضارية، وكان هذا الانفتاح ساقطا في غاية الذل والمهانة والتبعية العمياء للأفكار والعقائد والأخلاق الهابطة، ولم يكن لهم نصيب من أي تقدم حقيقي وصل إليه هؤلاء المستعمرون نتيجة للإيجابيات التي بنوا عليها هذا التقدم الصناعي والزراعي والعسكري والتجاري وبناء المؤسسات القادرة على تسيير حياتهم وتنظميها، وعاشت أمتنا تحت هذه المظلة السيئة راضخة ومؤملة في الخلاص يوما ما من هذا الكابوس المخيف المخيم على شتى مناشط الحياة، حتى بلغ السيل الزبى، فانتفضت بعض المجتمعات التي عانت من هذا الوضع البائس بعد عقود من المآسي، وغامرت بحياتها للتخلص من الأنظمة الجاثمة على صدورها المتنكرة لدينها وأخلاق أمتها، وأيقنت بأن هذه الزعامات لا تبنى دينا ولا دنيا، فانقشعت الغمة، ولفظت بعض المجتمعات هذه الزعامات الورقية الغارقة في التبعية والعمالة .

تلك العمالة والتبعية معروفة للقاصي والداني، وهي محل تندر في كل مكان، وكان لأحزاب المعارضة السياسية بشتى أطيافها اهتمام كبير في فضح هذه العمالة إلى حد المبالغة في تصويرها والخوف منها؛ لأن بعض الأنظمة- والحق يقال- لم تبلغ من السوء إلى هذه الدرجة، وهذا الموقف مما يحسب لأحزاب وجماعات العمل السياسي، وتشكر على هذا النهج المنحاز إلى تطلعات المجتمعات الراغبة في بناء ذاتها والاعتزاز بهويتها وعقيدتها، ولا ترضى بانتهاك سيادتها والتحكم في رسم مستقبلها وإرغامها على التشبه بأخلاق مستوردة، لم تجن منها غير الدمار والانحطاط.

لكن عورات هذه الأحزاب والجماعات تكشفت في الآونة الأخيرة حين ولت وجهها شطر عواصم الدول الاستعمارية شاكية وباكية من ظلم الحاكم ودكتاتوريته عارضة نفسها وخدماتها المجانية التي تفوق كثيرا خدمات الحكومات السابقة، وأحيانا يتم هذا العرض على مرأى ومسمع من الجميع، وهو ما شهدته الساحة اليمنية أثناء فترة الاضطرابات والاحتجاجات المناهضة للحكومة، حيث تبارى السياسيون المعارضون في عقد اللقاءات والمشاورات والاجتماعات مع سفراء ومسؤولي سفارات بلدان أمريكا والاتحاد الأوربي في صنعاء، وصدرت عنهم خلال هذه الفترة تصريحات علنية وواضحة مفادها أنهم يشكلون الخيار الأمثل لهذه الدول إذا تم اختيارهم لتولي زمام السلطة، وأنهم قادرون على تحقيق ما عجز عنه النظام من محاربة للإرهاب ومصداقية في التعامل بروح عالية، وأن النظام السابق غير جاد في التعامل والتعاون معهم، وهو من زرع الإرهاب وبنى تنظيم القاعدة لغرض ابتزاز الدول الغربية التي أخذت على عاتقها محاربة هذا التنظيم في كل اتجاه وبكل الوسائل، وأظن أن وجود تنظيم القاعدة ونشاطه على الساحة اليمنية وغيرها غير خاف على أحد، وإن استفاد منه النظام من حيث تهويل نشاطه وزعمه بأنه الأقدر على تحجيمه أوالقضاء عليه، لكن الإيحاء بأن النظام هو من بناه لايمت إلى الحقيقة بصلة، بل الأسلوب الذي سلكه النظام مع هذا التنظيم هو نفس الأسلوب الذي يستخدمه مع الخارجين عليه من ذوي الشوكات وجماعات النفوذ، حيث يحاول مهادنتهم ومد الجسور إليهم متصورا أن هذا كاف في الحد من نشاطهم  وتجنبا لإثارتهم، ويعد هذا كسبا لمزيد من الوقت وفرصة للمراجعة في تصوره، مما حدا بكثير من هؤلاء الخارجين على السلطة إلى رفع سقف مطالبهم وانتقاصهم من الدولة وهيبتها، وهو أسلوب ضعيف جر على الوطن ويلات كثيرة. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا   * مضر كوضع السيف في موضع الندى.

وتصرفات سفراء الدول الغربية مع المعارضة والحكومة إبان الأزمة مخجلة لنا كيمنيين، يتخيل الواحد منا كأن هذه السفارات عبارة عن حكومات داخل بلادنا، تتحكم في مصيرنا، وتصدر إلينا التعليمات والتوجيهات، والكل في حالة استرخاء وإصغاء وتقبل لما يملوه علينا، والآمال معقودة عليهم، الحكومة تخشى من مغبة ضغط حكوماتهم عليها، والمعارضة تأمل في مزيد من الضغط على الحكومة، وتقدم نفسها على أنها الوريث الشرعي الوحيد للنظام، وهذه والله سوءات لا تغتفر، وسلوك مشين يوحي بفقد الثقة بالنفس والاتكال على الحلول المستوردة من الدول الاستعمارية، التي لها من الهيبة والمكانة في قلوبهم ما يستعصي معه نزعها، في حين أن هذه الدول تترنح، وينضب بريقها، لأنها أصلا تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية  وأخلاقية، تتفاقم يوما بعد يوم، لكن بني قومي مصرون على الهيبة من الأسد وإن كان جريحا أو شارف على الموت أو مات فعلا، فهو أسد في نظرهم يحسب له ألف حساب، أنا لا أزعم هنا ضعف تأثير هذه الدول، ولا أنكر قدرتها على الأذى، لكني ألمح ويلمح غيري بأن هذه المبالغة في تقديرهم وخطب ودهم تشكل خطرا على أمتنا حكومات وشعوبا، ومدعاة أيضا لاستضعافنا والاستهتار بقدراتنا وربط مصيرنا بما يودون أن نصير إليه من زيادة ضعف وهوان وتفكك.

ومن الغريب حقا أن بعض قوى المعارضة في بلدنا وفي غيرها من بلدان عالمنا العربي تتسول على أبواب إدارات الحكومات الغربية، وتحاول جاهدة التقرب من  منظمات المجتمع المدني لهذه الدول؛ علها تحظى بمقابلة بعض الزعماء السياسيين أملا في الحصول على مكاسب عجزوا عن تحقيقها في بلدانهم، ومحاولة للانتقام من رموز نظام بلدانهم على سبيل التشفي والانتقام  بغض النظر عن النتائج المترتبة على مثل هذه التصرفات المشينة، ولو أدت إلى بعثرة الجهود وخلط الأوراق، كل هذا غير مهم  في قاموسهم الحضاري الديموقراطي طالما وهو يخدم مصالحهم، ويجعلهم زعماء عالميين، ولو على حساب أمتهم وهويتهم والأخلاق التي نشأوا عليها،هذا النوع من التسول هو ما تقوم به الصحفية الثائرة توكل كرمان، التي تعارض أي صلح أو اتفاق نحافظ من خلاله على ما تبقى لنا من مكتسبات ومصالح طحنت في هذه الأزمة، ناهيك عن الدماء والجراحات التي ألمت بالمجتمع، والحال أننا بأمس الحاجة في هذه المرحلة إلى التعاضد ونسيان الماضي.

وأغرب من هذا أن بعض قوى المعارضة في بلدان عربية تبوأت مراكز متقدمة في  الانتخابات، جعلها في مركز الصدارة بعد أن كانت محاصرة وفي حالة إقصاء تام من الأنظمة المستبدة المتنكرة لكل ما يمت بصلة إلى أمتها، نالت هذه المعارضة بعد انكشاف الغمة ثقة الناس بها، فمنحتها أصواتها في الانتخابات بحكم حملها لقضية الإسلام وهوية الأمة أملا في حياة كريمة في ظل شريعة السماء،  لكن هذه القوى التي كانت مستضعفة وأملها في الوصول إلى سدة الحكم ضعيف تنكبت الطريق فخذلت أمتها، وشد زعماؤها الرحال متسولين أيضا على أبواب الدوائرالسياسية الغربية معلنين على الملأ بعلمانية منهجهم في الحكم، ومؤكدين على توافقهم مع النظام الغربي القائم على الحرية المطلقة للأفراد دون قيود أخلاقية أودينية أو اجتماعية، وإن أشاروا أحيانا إلى مرجعية الإسلام على استحياء، وهذه والله كارثة ناتجة عن انهزام نفسي عميق وتصور ذهني سابق بسطوة العملاق الغربي على مجريات الأحداث.

هذا المبدأ في  التنازلات خطير في نتائجه، ولن ترضى به هذه الدوائر، وستتوالى التنازلات، وستظل جاثمة على الصدور حتى ننسلخ من ديننا وقيمنا بالكلية، قال تعالى: ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم))، واستلهام النموذج التركي ليس مبررا لهؤلاء الذين رأوا في هذا النموذج نجاحا باهرا؛ لأن مجتمعاتنا لديها القابلية التامة لسيادة الشريعة؛ ولهذا لم تترد في اختيار من تعتقد فيهم الخير والصلاح والسعي إلى تحكيم الشريعة، وهذا بخلاف المجتمع التركي الذي هيمنت عليه العلمانية بقوة السلاح في كل شؤون حياته حتى غدا ينشد الحرية كبقية المجتمعات الغربية، ولا يطمح في الوقت الحالي إلى أكثر من ذلك، فتبقى المبالغة في احتذاء هذا المنهج العلماني الليبرالي التركي غير مقبولة، وليست هي الهدف ولعلنا نفرد هذا الموضوع بمقال آخر في القريب العاجل إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وكتبه الدكتور / محمد عبدالله عايض الغبان.

         الصفحة الشخصية على الفيسبوك

         http://www.facebook.com/dr.gabban

 

 

 

 

 

 

Total time: 0.0701