أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » مذكرات

ألخارطة العربية في قراءة أمنيّة يوغوسلافِيّة مبكرة والألبانية سعدية تكتب ربيع العرب مقاوم

- عباس عواد موسى

     مذكرات ليست شخصية (    15 )

 ألخارطة العربية في قراءة أمنيّة يوغوسلافِيّة مبكرة والألبانية سعدية تكتب ربيع العرب مقاوم
عباس عواد موسى

مرّ ربع القرن الماضي بأحداث جسيمة عكّرت هدوئه العام الذي أراح بال الحكام العرب . بدءاً من الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي أرّقت أذهان العملاء ومشاريعهم كثيراً , فوجدوا في أعينهم المغروسة في صفوف المقاومة الفلسطينية خير حليف لإجهاضها , وإفشالها في تحقيق أيٍّ من أهدافها . بيد أن كبير مفتشي الأمن في يوغوسلافيا المفككة ( غروزدان تسفيتكوفسكي ) حذر من تداعياتها الآجلة , باعتبارها مدرسة شاملة في النضال التحرري من نير الإستعمار العقائدي , ألمتمثل في الصهيونية العالمية . وأكد في كتابه ( ألإرهاب في العالم المعاصر ) أن إرهاب الدولة الصهيونية وهو السبب الأبرز لاندلاع الإنتفاضة , سيقود إلى حرب عالمية كبرى لا محالة إن أبقى العالم المتصهين بأجمعه على بذرة الصراع قائمة دون حلّ .
زارني برفقة أمنِيٍّ رفض تعريفي به , ووجدني رافضاً لفصل في كتابه الصادر عن دار ( مِسْلَةْ ) وتعني ( ألفكرة ) , لأنه لا ينفي تهمة الإرهاب عن فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية , ويُناقض ذاته في الفصل الرابع الذي يليه , عندما نفى فيه التهمة عن منظمة التحرير الفلسطينية . فمما جاء في الفصل الثالث الذي حمل عنوان ( إرهابيو الشرق الأوسط ) أن جورج حبش ووديع حداد يمثلان يد الإرهاب في الثورة الفلسطينية . وأن العمليات التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مُتّخذاً إياها على سبيل المثال إرهابية بامتياز , ثم يعود في الفصل الرابع ليقول ( وما رأيناه من عمليات لليلى خالد وأمينة دحبور لا يمثل إرهاباً , لأننا سمعنا ما قالتاه من أنهما يقومان بهذه العمليات لكسر الصمت عن الجرائم الصهيونية بحق شعبهما الفلسطيني المكافح ) . وتطرق بشيء من التفصيل إلى التضامن الشعبي العربي مع نضال قرينه الفلسطيني ومشاركته نضالاته , ليقع في تيهٍ آخَرٍ عندما يُؤيد النظام العربي الراهن الذي شكل حاجزاً أمام شعبه الزاحف لتحرير فلسطين واجتثاث الكيان الصهيوني . ويعود لنعت منفذي العمليات من العرب بالإرهاب .
ولعلّ ما أثار حفيظة الكثيرين في البلقان وقتئذٍ , في هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثمائة وأربعين صفحة من القطع المتوسط وتضمن أحد عشر فصلاً , أن صاحبه أعرب عن تخوّفه من استمرار صمت مسيحيي العالم إزاء نضالات مسيحيي فلسطين والعرب ضد الغطرسة الصهيونية , فيشكل صمتهم تخلي العرب عنهم والبحث عن اتجاه جديد للبوصلة التائهة .
في الفصل الخامس من الكتاب الذي أصدره كاتبه في العشرين من نيسان عام 1988 , بعد ثمانية شهور على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية , حاول المؤلف الإجابة عن تشخيص مبكر لتأثير وقف الحرب على القضية الفلسطينية , التي كانت تشهد فصلاً جديداً يتمثل في انتفاضة حجارة انطلقت في الثامن من ديسمبر عام 1987 , وأفرزت قيادتان , إحداهما تماثل النظام العربي الذي استطاع احتضانها وجرّها إلى سياساته الراضخة للإستعمار والماهرة في بيانات الشجب والإستنكار والأخرى النابضة بما ترغبه الشعوب العربية المكافحة . فقادسية صدام وحرب الخميني المقدسة , جاءت بإيعازٍ سوفييتي كما قال لأن الأخير دخل أفغانستان ليتلاشى خطر انتشار المدّ الخميني داخل حدوده . فخسر الحرب ولم يكسب الراحل صدام قادسيته , فأبقى الإجابة لغيره ومع مرور الزمن .
في مساء العشرين من آب عام 1988 , كنت على موعد مع الصحافية الشهيرة ( نيفينكا ميتريفسكا ) في مقهى الإنتصار . فجاء بالصدفة الصديق ( ماجد الحسناوي ) بصحبة زوجته وطفلته هديل , فسلّمت عليه مهنّئاً بانتهاء الحرب , وسألته عمّا إذا ظلّ على نيّته بالإلتحاق ببرنامج الدكتوراه بكلية الهندسة الإليكترونية في جامعة نيش ( ثاني المدن الصربية ) , فأجابني شكراً على تهنئتك وقال ( سنعمل على ضمّ الكويت لعراقنا ) . تلك الإجابة التي شكّلت عنواناً مُريباً لمقالة أكثر ريبة شكّلت صاعقة في يوغوسلافيا . ف ( نيفينكا ) استدعتني لتسألني عن تداعيات وفاة الخميني على القضية الفلسطينية , فخرجت بمادة دسمة من الآراميّ العراقي وزوجته . ولكنها استغربت كيف أن الزوجين الصّابئين لهما وجهتا نظر متناقضتين إزاء الصراع العربي الإسرائيلي , ففيما كان الأستاذ الدكتور المهندس الحالي في الجامعة التكنولوجية ببغداد كما أبلغني المهندس جمال عبدالمطلب البكاء يتبنى موقف العراق الرسمي في أن صراعنا مع الصهاينة صراع وجود لا حدود , كانت زوجته لا تُحسّ في اليهود سوى أناس مظلومون .
ومن المفارقات , أن عراقيّاً آراميّاً آخراً كان يعمل في معهد للأبحاث البيونووية , في مدينة ماريبور السلوفينية المحاذية للنمسا , حمل الجنسية اليوغوسلافية بتسهيلات عام 1985 حينما كانت البلد ترفض منحها تحت أي ظرف , جاء ليزور المهندس فوزي عبدالرحيم الجيزاوي ترافقه عالمة نووية عراقية مُبتعثة . ولما عرف أنني زائر , إقتصر في حديثه معي على الترحيب , وأشار بعينه للعالمة المبتعثة أن لا تتحدث بما يخصّ أمرها .  ولكن إبنة الجيزاوي مريم التي كانت تبلغ الخمس عشرة سنة من عمرها غادرت برفقتي لأتجول في بحيرات المدينة السياحية السبع . وأحبّت أن نتأخر ريثما يغادر الضيف وزوجته والمبتعثة المنزل لأنها تكره زوجته الصربية اليهودية التي تعتاد زيارة إسرائيل مرتين كل عام على الأقل وتتظاهر بكرهها للصهاينة . وفي فترة لاحقة , شاهدتها على شاشة تلفاز إقليم فويفودينا تجلس إلى جانب الدكتور اليهودي ديكا , يستقطبان نساء يوغوسلافيا للذهاب إلى إسرائيل بهدف علاجهن من حَبّ الوجه والجسم من خلال حلقة ألصحة والجمال , ووقتها عرفت أن إسمها زهرة . وأنها إعلامية ناصرت القضية الفلسطينية لفترة كافية من الزمن , لتجعل انقلابها يُشكلّ ارتداداً لدى بعض المُؤيّدين من اليوغوسلاف . وهو مشهد تكرر أكثر من مرة من قبل يهود من مواطني تلك البلاد .
واليهود يثقون ببعضهم وبأداء أدوارهم , عكس النظام العربي الذي يتشكك عادة بدوائره , المرتبطة بالخارج رغماً عنه . ليُبقيه المُستعمر مُكَبّلاً كما أنشاه , ولينفذّ مخططاته مُسَيَّراً . ولِذا , لم أجد مواطناً أردنياً تفاجأ في الإنقلاب المفاجيء لعدد من رموز مراكز القوى تجاه ما يجري في سوريا , رغم عداءها التاريخي للنظام الأردني . فقد أدى وزير دفاعها الأسبق ( مصطفى طلاس ) دور الصربية ( زهرة ) مُرتدّاً على كتابه الثورة العربية الكبرى الذي اتخذ منه ولاءاً مُطلقاً للهاشميين , ليصبح خادماً أميناً لنظام الأسد الذي خطّط لاغتيال مضر بدران رئيس الوزراء الأسبق منذ أكثر من ثلاثين عاماً . ومصير الكثيرين من الأردنيين أضحى مجهولاً بعد دخولهم سوريا طيلة سنوات عمر نظامها الحالي  الدموي . فالمواطن الأردني الذي شاهد فشل النظام السوري في التأثير على وطنه وهو في أوج عنفوانه , يثق بأن لا تداعيات سيتركها انهياره عليه , ويعرف إن هذه الرموز المُتخوفة إنما تخشى فقط على فسادها المختبيء أن ينكشف أو للحفاظ على ارتباطاتها الخارجية لا فرق . فكلا الأمران يرتبطان ببعضهما البعض . بل إن المواطن الأردني الذي أحبط أكثر من محاولة لأتباع النظام السوري ليس آخرها محاولة تسميم اللاجئين السوريين في مدينة الرمثا قادر على إحباط كل ما يسعى النظام الآيل للإنهيار في سوريا لتنفيذه على تراب وطنه . فدبابات السوفييت كما رأى تسفيتكوفسكي لم تمنع السكين من ذبح ولِيّهم نجيب الله وهو نفس المصير الذي تنتظره رقبة كرزاي مُستقبلاً الذي أقرّ بعجز مخابرات واستخبارات الناتو الذي أحضره من صاحب مطعم في الولايات المتحدة ونصبه رئيساً واعترف في نفس تصريحه بعجز دوائر بلاده الأمنية عن أداء واجباتها . فهي ناشئة من مُستعمر عاجزٍ لولا العملاء التابعين ( المنافقين ) لما استغرق بقائه يوماً واحداً . والقافزون على ثوابت الأمة بات المواطن العربي يعرفهم من مواقفهم المتطابقة مع إملاءات أسيادهم في واشنطن وتل أبيب . وهو الأمر الذي حتّم على الشعوب العربية الممنوعة من صوتها المقاوم أن تتيقّظ كثيراً في عاصفتها الجديدة بعد الهدوء المُصطنَع .
وفي الفصل السابع من كتابه الآنف الذكر , نقرأ دور بثّ الشائعات في إفساد التطور والإزدهار للمجتمعات في دول العالم الثالث . تلك التي تُفضي إلى خُرافات شبيهة بالحكايات والخرافات الفرعونية في مقدونيا , وهو عنوان لكتاب آخر أصدره ( حسني زيموسكي ) زعيم حزب ( المصريون ) الذي تأسس في مقدونيا وضم عشرة آلاف في عضويته ساروا في مظاهرة إحتجاجية مطالبين بتسجيلهم كقومية مصرية . واستند المؤلف إلى ما كانت الإمبراطورية العثمانية تغرسه من ألقاب للمتعاونين معها , لتمنحهم هيبة مؤقتة زالت بخسارتهم لأول حرب في البلقان . وقد جعل نظام القذافي مثلاً دائرة خاصة كا عرفنا بعد سقوطه تمنع ظهور شخص مُحتالٍ غيره يستطيع حذوه في الإستئثار بألقاب مُزورة لنفسه مثله . فها نحن في الأردن , نشهد قدوم مزيد من الليبيين لعلاج بناتهم من خرافات قاموا هم بفعلها . ففي صغرها يأخذونها عند ساحر يضع لها ملبوساً من العُقد يحميها من الحسد ويقيها من السحر , ولما تصبح شابة يقتادونها إلى ساحر يفكّ ما صنعوه بإرادتهم . وهو ما نهانا عنه جلّ في علاه في القرآن الكريم , والساحر حدّه القتل في الإسلام ولا توبة له . فإرادة الله نافذة , ألم يقتل فرعون كل المولودين باستثناء الذي قتله ألا وهو النبي موسى عليه الصلاة والسلام ؟ ولم تهزمه الخيفة التي أوجستها نفسه عندما رمى الكهنة عصيهم . وأما في العراق فقد استمعت كثيراً من أهله عن سادتهم , بل وشاهدت في أغلب منازلهم جداريات قماشية كُتبت عليها أسماء لأولياء ما قرأت إسماً لأحدهم في التاريخ العربي الإسلامي . ولما سألت أحد الذين زرتهم عن إسم واحد من الواردة أسمائهم على جدارية صالون ضيافته , قال لي : كيف لا تعرف الذي أنقذ حياة فلان من إعدامٍ محقق في فترة قادسية صدام , لقد أرهقه التعب كثيراً فنام عميقاً وتأخر عن مناوبته أسبوعاً كاملاً . فأمره هذا الوليّ أن يلتحق بكتيبته من جديد وطمأنه على مصيره , وفعلاً يكمل لي محمد عدوان الجبوري سرد الخرافة وما إن وصل حتى أخذ الجميع يعانقونه مهنئين أنفسهم به فقد قاد صدّهم للعدوان الإيراني وأوقف زحفه , ويقول جرى كل ذلك في فترة الأسبوع الذي غابه . ويروي حكايات عديدة أخرى لوليّه . ولكننا لم نجد من هؤلاء الأولياء من أنقذ صدام حسين من اعتقال مبكر بعد سقوط نظامه ولا من إعدامه  تماماً كموقف ساحر القذافي المُخزي , فقد أتى المقبورَ ناصراً,فأمَله بمربوطه وأوصله إلى نهاية لم تستطع دائرة تأليهه تضليل أعين معتقِليه عنه , فالخرافات والشائعات التي اعتمدت عليها أنظمة الظلم والفساد والقهر والإستعباد جعلت مآلاتها كما رآها الجميع على حالها .
عندما زار ( بوش الإبن ) ألبانيا قبل ستّ سنوات , تباهى مسؤولوها بأنهم أقاموا له مأدبة غداء بلغت تكلفتها مليون دولار , لأن زعامات العالم المعاصر تؤمن بأن عنصر قيادتها تُظهره ما يقدّمه الآخرون لها من واجبات تدلّ على الطاعة لهم , وفيما كانت وسائل الإعلام الألبانية في تيرانا وبريشتينا واُسكوبية وبُدغوريتسا. تبثّ خبر المائدة قالت لي الزميلة البشناقية ( رفيقة سيلمانوفيتش ) : أنت الوحيد المُعتاد على الذي بات يُدهشنا فلربما أنك اعتدت على سماع إقامة مأدبات على مدار الأيام وظللت محروماً حتى من شمّها لأن وسائل الإعلام تعجز عن نقلها عبر الأثير . أما نحن فقد بتنا الآن نسمع عنها , بعد أن ألحقتنا أنظمتنا الناشئة  بمن ألحقتكم به أنظمتكم طوال عهدها السابق وللآن .
للمرة الأولى , إرتأت حكومة عون الخصاونة , أن يتقدم كل من يجد في نفسه الكفاءة لمنصب مدير عام لدائرة الشؤون الفلسطينية بطلب سواءاً من موظفي الدائرة أو من خارجها , فاكتظ الدُّرج المعني بالطلبات ولمّا علم القائم بأعمال المدير العام  أو المدير العام بالوكالة أن رئيساً سابقاً للجنة خدمات مخيم حطين زار دار رئاسة الوزراء لمناقشة الموضوع إتصل برئيس سابق لنفس اللجنة واعداً إياه بإعادته رئيساً للّجنة ( عمل تطوعي ) إن تم تثبيته في موقع المدير العام , واتفق معه أن يصطحب وفداً كبيراً لرئاسة الوزراء بهدف الطلب بتثبيته , وحدث ذلك . فالفاسد كان يقول وأنا جاهز لخدمة الوطن في أي موقع يختاروني له ويقصد يُفصّلوه على مقاسي , ولا يزال الوضع كما هو , فالترضيات فساد , والمنصب الذي يُمنح لطالبه فساد , والساعي لطالب الموقع فاسد مثله , والوفود على هذه الشاكلة هي مرتزقة فاسدة .ولا يختلف الوضع في بلدان العرب الأخرى عمّا هو عليه في الأردن . فالجالسون في المواقع والناظرون نحو المناصب توصلهم إليها طرق مشينة تتناغم عادة مع أصحاب مراكز القوى الفاسدين . ولأن الوضع بات في تلك البلدان مشابهاً لما هو عندنا أرسلت لي زميلتي الأديبة والشاعرة الألبانية ( سعدية علْييتي ) قصيدة جديدة بعنوان:

ربيع العرب المقاوم

إعتدنا على استشناق الربيع
من مسامات الأرض
عندما الشمس تبزغ ,
وترسل أشعتها إلى أبواب الأرض
فتزهر ساحاتها

ألربيع العربي المقاوم ,
أحْببَ فينا الثورات
كالأبوين

ألربيع يطال كل مساحات الأرض
ومسافاتها
فلننطلق في ربيع الهبّات
كي نجني من ثماره.

هي حقيقة ضايق كشفها مراكز قوى الفساد , والسّلطويون اللاهثون للوصول إلى ما يصبون إليه . وباتوا أكثر وقاحة في تطبيعهم مع كيان الإحتلال الصهيوني في مغربنا الأشمّ , ضاربين الشعب النبيل ومواقفه بعرض الحائط . متناسين أنهم ماضون إلى كنس أنفسهم بأيديهم . فالجُبن الذي رافق جهلنا أصبح شجاعة ورباطة جأش يلازمها علمُنا النقيّ الذي يجب أن نُخلصه من بقايا الخزعبلات والخرافات , والدجل والشعوذة .   

    

المصدر : عباس عواد موسى

Total time: 0.052