مخاطر هيكلة الجيش.. دراسة تحليلية وفق معطيات الواقع اليمني
تعتبر هيكلة الجيوش، بمفهومها الواسع- العلمي والبرامجي والقانوني- من أصعب الأعمال الإدارية، التي يُعتمد لها البرامج والخطط المرحلية البعيدة، والميزانيات المالية الباهظة، وتُحشد لها الخبرات والطاقات الهائلة، والإمكانات والموارد الضخمة، والوسائل التقنية الإدارية الحديثة. ومع ذلك تظل مسألة هيكلة الجيوش، من المسائل الخطيرة والمعقدة، التي تؤرق القيادات السياسية والعسكرية، على حدٍسواء، وذلك لعدة أمور:
لأن الهيكلة بمفهومها الواسع أصبحت بالنسبة لجواسيس وأعداء الجيوش غنيمة سائغة وصفقات رابحة، توصلهم إلى مراكز النفوذ والقرار، بمجرد شخطة قلم يتحرك برأسه على قراطيس التسويات السياسية المعقدة.
لأنها أصبحت مسألة حساسة, تشغل هاجس خبراء الجيوش وقاداتها, وتثير الحساسية المفرطة, في أوساط وحداتها النمطية والنوعية، وتبعث براكين الغضب، بفوهات لاتنطفئ، وتشجع ضعفاء النفوس المحسوبين على صنوفها المسلحة وتشكيلاتها الأمنية، على تجاوز مبادئ الكفاءة والأقدمية، وإحداث الكثير من الاختلالات المتباعدة، التي قد توصل الكثير من منتسبيها إلى المطالبة بالتقاعد المبكر والفرار الممنهج والتمرد المسلح.
لأنها أصبحت في عصرنا الحالي مطلباً سياسياً خطيراً يدخله أعداء الشعوب في المطالب السياسية، لغرض إعادة ترتيب الجيوش المستهدفة، أو كعامل حاد يُحطم معنويات الجيوش, ويقتل كفاءاتها النوعية النموذجية، ويعبث بمقدراتها، ويسحق خبراتها ويطمس مهارات روادها، ويُشتت صنوفها وتشكيلاتها، ويُمزق ملاكها البشري، وربما يُلامس عقيدتها وأساليب تدريبها ووسائل التطبيق ونوعية التسليح, ومصادر تسليحها.
يقول: الجنرال/ مصطفى عبدالنبي إذا كان الطلاق من أبغض الأشياء عندالله في الحلال، فإنّ هيكلة الجيوش من أبغض الإجراءت في القوانين السياسية والعسكرية لدى قادتها، وقد تصل مخاطر هيكلة الجيوش إلى ذروتها في الدول التي يرتفع مستوى الأمية في أوساط جيشها إلى درجة عالية، أو التي لاتعتمد على برامج التأهيل العسكري المستمر، وكذلك في المراحل الانتقالية للدمج السياسي الدولي، كما حصل مع سوريا ومصر في ستينيات القرن الماضي، وفي بلاد السعيدة اليمنية، في تسعينيات القرن العشرين، وكذلك في الفترات الزمنية المختلفة لحكومات التسويات السياسية, التي تنتهي بها تلك التسوية إلى تسليم الحكم إلى حكم فردي ـ لأحد أفراد الاطراف المتناحرةـ أو تنتهي بانتخابات تنافسية يشعر أحد أطراف التسوية بأنه سيُحرم من حصته السياسية، بسببب افتقاره إلى الهيئة الناخبة، وبذلك تضع تلك الأحزاب مصلحتها الشخصية والحزبية فوق المصلحة الوطنية، ومن ثمّ لاتحترم المبادئ الوطنية ولا الكفاءة الإدارية, ولاتعترف بالأقدمية العسكرية عند الهيكلة.
ومع ذلك تظل هناك حالات تتطلب بحكم الضرورة إعادة النظر في تنظيم المؤسسة العسكرية والأمنية، أو جزء منها وذلك عند حدوث بعض المتغيرات المهمة في الدولة، أو في المؤسسة العسكرية والأمنية، سواءً عند حدوث تغيير عام في الأوضاع السياسية، التي يصعب معها العمل وفق التنظيمات السابقة.. أو حدوث تغير عام، في تنظيم القوات المسلحة والأمن أو عند إدخال أفكار عقدية أو تنظيمية جديدة.
وقبل أن ندخل في تفاصيل الموضوع، صعوباته ومخاطره، ينبغي علينا أن نتعرف على هذا المفهوم الاستراتيجي، المخيف كثيراً والمطلوب أحياناً، وذلك على النحو التالي:
مفهوم عسكري استراتيجي، وتعني باختصار شديد: التخطيط والتنظيم والتشكيل, وفقاً للمبادئ والمصطلحات والمسميات العسكرية.
ولذا فقد يكون من المعقول والمنطق أن يصل أي جيش إلى مراحل تتطلب إعادة النظر في هيكلته، كما أوضحنا، ولكن من غير المعقول والمنطق ـ أيضاً ـ أن يتحقق ذلك بين عشية وضحاها، بل إنّ تلك المراحل قد تواجه الكثير من الصعوبات والمخاطر التي تحتاج منا إلى سنوات من الممارسة والتصويب، تخطيطاً وتنفيذاً وتقييماً، حتى نتجاوز- بنجاح- الصعوبات, والتي بإمكاننا اسقاطها ـ هنا ـ على الجيش اليمني تحديداً وذلك للإيضاح.
الحديث عن إخراج المعسكرات خارج المدن، خلال المرحلة الراهنة، يعدُ ضرباً من الخيال في ظل غياب البنى التحتية والمرافق الخدمية، للمعسكرات البديلة، والتي يحتاج إنشاؤها لسنوات عدة وموازنات هائلة.
بسبب الاختلالات البنيوية للجيش اليمني وتركيبته الاجتماعية المعقدة، والتي من أهمها الفصل الحاصل في الأركانات الرئيسية للجيش, حيث تمّ فصل الأمن عن القوات المسلحة، منذ أحداث يومي 23/24/أغسطس 1969م، حتى بات الإنسان اليمني المدني والعسكري يعتقد أنّ الجيش هو القوات المسلحة والقوات المسلحة هي الجيش، دون النظر إلى المصطلح القانوني الذي يُردده على لسانه في اليوم أكثر من مرة (القوات المسلحة والأمن)، وبذلك من الصعوبة بمكان عملية دمج بعض الوحدات بأخرى قبل الوقوف على طبيعة مهام كل منها ودراسة كوامن النجاح والفشل، في عمل كل قطاع عسكري أو جهاز أمني.
ضعف القيادات في الدولة كونها حديثة عهد, بإدارة مفاصلها وبخاصة الملف الأمني والعسكري، وأي تسرع في إعادة الهيكلة وإحداث تغييرات واسعة في القيادات المركزية والوسطى والميدانية، بدون تدرج قد يفاقم من الانفلات الأمني، ويخلق صراعات واسعة وعنيفة بين مراكز القوى والتيارات الخفية داخل القوات المسلحة والأمن.
دخول العامل الدولي راعياً ومشرفاً ومنفذاً لعملية الهيكلة، يعطي لمحات غير مطمئنة لوجود بصمات خارجية قدتساعد على الاختراق التام والممنهج والذي يسهل معه على المدى القريب تحقيق التبعية الخالصة، خصوصاً إذا ذهبنا إلى التعاطي مع الوثيقة الأمريكية التي سربها موقع «ويكيلكس» بوضوح، عن اتفاق(حميد) والسفير الأمريكي السابق عام 2009م.. للإطاحة بالرئيس علي عبدالله صالح- حفظه الله- حينها، والذي سيكون له ثمناً باهظاً بعدما تم.. بإلإضافة إلى التواجد الدولي المكثف في منطقة خليج عدن وباب المندب.
إنّ إعادة الهيكلة والحديث عن دمج بعض الوحدات يحتاج إلى إعادة تأهيل لهذه الوحدات تربوياً وفنياً ومهاراتياً ومعرفياً، وتسليحاً بما يتناسب ومهامها الأمنية والعسكرية والقتالية الجديدة، والتعويض العادل للفاقد التمويني للقوات المقاتلة، وهذا يتطلب رصد موازنات ملحقة بالميزانية العسكرية والأمنية، بحيث تبقى مظاهر التمايز والتباينات ظاهرة فيها، تبعاً لطبيعة ونوع المهام ومستوى التدريب ونفقات التسليح.. وانشغال الجيش بشقيه العسكري والأمني في مواضع وترتيبات داخلية في هذا الظرف، في غاية الخطورة والخطر، الذي قديتزايد معه نشاط القاعدة، ويعطي حركات التمرد حدةً واتساعاً.
الشروع المبكرفي هيكلة الجيش, بكل مكوناته العسكرية والأمنية، قدلايخدم المهمة الرئيسية الأولى لحكومة الوفاق،والمتمثلة في إعادة تطبيع وضبط الأوضاع وتحقيق الأمن والاستقرار,بل على العكس من ذلك سيعيدإنتاج بواعث الفرقة والصراع السياسي, وتوظيفه بشكل خلاق في شتى مفاصل المؤسسة الدفاعية والأمنية، وقد ينظر إلى مثل هذه المطالب والدعوات كظغوط غير حصيفة تمارس على رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأي إملاءات ومطالبات مبكرة إنما تصب في مجرى إرباك عمل الرئيس وابتزازه، مايعني بالقوة عرقلة مساعيه الوفاقية واستغلال أطراف أخرى لذلك, لتتنصل من التزاماتها السابقة، وهو ما ينذر ببوادر انشقاقات جديدة في الجيش أوالتعجيل بانقلاب محتمل.
يطلق مصطلح الهيكلة ويقصدبه عدة مقاصد أهمها المقاصد التالية:
إعادة تمركز وتسليح وتنظيم الوحدات في مناطق معينة، وفقاً للتهديدات المستقبلية وطبيعة المهام.. وهذا المقصد وإن كان مختصراً في ألفاظه وكلماته، إلا أنه أفاد العموم في قوله:(التهديدات المستقبلية، وطبيعة المهام) وذلك باعتبارأنّ الألفاظ العسكرية دائماً ماتأتي مختصرة، حفاظاً على السرية المطلقة.
وهيكلة الجيش على هذا المقصد،يحتاج الخبراء(اللجنة العسكرية) إلى خمس أو ست سنوات كحدٍ أدنى،أوعشرسنوات كحدٍ أعلى وذلك لتحقيق القاعدة المرغوبة، (على أسس وطنية وعلمية حديثة) كما أنّ تحقيق ذلك لن يكون قاصراً على الخبراء اليمنيين فحسب، بل نحتاج إلى خبراء روس وعرب مصر والعراق أومصر وسوريا، وبذلك نكون قد رمينا بمؤتمر الحوارالوطني إلى المرمى البعيد,من كرة السلة الطائرة،وكلفنا حكومة الوفاق صرف الكثير من الأموال الطائلة,مقابل نفقات الإقامة والنثريات على الخبراء الأجانب والعرب،لمدة تتراوح من خمس إلى عشر سنوات، وهذا فيما لو اعتمدنا على الخبرة الروسية والعربية المشتركة، أما لو أخذنا بفكرة الخبراء الأمريكان، فإننا نحتاج إلى عشر سنوات كحدٍ أدنى، وعشرين سنة كحدٍ أعلى، بأسس وطنية وعلمية حديثة تنطبق عليها المعاييرالتشريعية والبرامجية والتنظيمية، وبذلك نكون قد رمينا بمسألة الهيكلة بعيداً كما رمينا بمؤتمرالحوار الوطني أبعدمنها، ولمدة قد تستغرق الفترة الانتقالية الثانية ـ السنتين ـ ومعها خمس فترات رئاسية قادمة، ولوحاولنا تطويع الأمورضد طباعها وتسييرها في غيرمسارها،وأجبرنا الخبراء الأمريكان على النزول عند أدنى مستوى من التقدير خمس أ
وست سنوات ـ وهوأمرقد ترفضه الخبرة الأمريكية نظراً للأمانة المهنية ـ لكن لو تم ذلك فرضاً، فإننا نكون بذلك قد ذبحنا الجيش اليمني من الوريد إلى الوريد،على الطريقة الأمريكية وليس على الطريقة الإسلامية، وقد يُحدث هذا الفعل غير المشروع إسلامياً أو عسكرياً اختلالات متباعدة، وإشكاليات مزمنة، وسلبيات مؤثرة قد تغير عقيدة الجيش, وأساليب التدريب ووسائل التطبيق، ونوعية التسليح ومصادره.. إلى آخره من الأمور التي لاتخفى على كل من له أدنى معرفة بأبجديات الثقافة العسكرية، وإذاثبت في القلوب أثر الحادث والمحدث، واستقر في الوجدان التقاء الفاعل والمفعول فوق نقطة الحدث، وتصور العقل ذلك الأثر, ورفض التشكيك فيه،أصبح مطلب الهيكلة أمراً يتصادم مع القواعد الشرعية, التي تُحرم على الراعي تعريض الرعية للخطر، إذا تزاحمت الآراء وتعارضت الاختيارات عند المواجهة، وفي الوقت نفسه، يتعارض مع القواعد العسكرية التي تُوجب على القائد إيجاد الأمن لمرؤسيه وإحاطتهم به في السلم والحرب.
دمج العناصر أو القوى المتجانسة, وتشكيلها وفق النظام العسكري المألوف، وإعادة التسمية والتموضع أو إعادة الانتشار والتمركز على مسرح العمليات في البلاد.
ويعني بذلك دمج الوحدات النمطية مع بعضها والوحدات النوعية الواردة في النظام (العسكري) مع بعضها, مع مراعاة الوحدات النوعية التي لايوجد لها مماثل في النظام العسكري الوارد. أي الجديد.
والمطالبة بهيكلة الجيش على هذا المقصد، والحالة كما هي عليه، المتاريس مازالت موجودة والطرقات مقطوعة، والمتقطعون منتشرون على الطرقات يبحثون عن الفيد والغنيمة، ويتربصون بالجيش وممتلكاته, يعدُ ضرباً من المغامرة بالعتاد, والمجازفة بالأرواح والنفوس، والإصرار على تحقيقه, إن لم يكن لغماً لتفجير الوضع قبل البدء في الحوار الوطني، فإنّه مؤامرة واضحة، لتفكيك وتدمير مقومات الشعب, وقوته المادية والمعنوية، التي يدعمها بقُوته ودموعه ودمائه, لتظل قوية شامخة في السلم والحرب. أما على الصعيد السياسي فباعتقادي أنّ مثل هذا الإجراء المتسرع، قد ينمّ عن مجرد انفعالات متشنجة وتقييمات ذاتية، وغير موضوعية، بل وقدتؤول إلى أنها خدمة لأجندات داخلية أو خارجية، غايتها النيل والانتقام من وحدة وقوة وصلابة المؤسسة العسكرية والأمنية، حصن الوطن الشامخ وسوره الآمن المنيع، الذي تكسرت على رواسيه, معاول الهدم والتآمر، وضربات التمرد ومشاريع الانفصال وموجات التطرف.
وهو التدوير الوظيفي. ويقصدبه هنا إعادة النظر في الهياكل التنظيمية وما يتصل بها من تعيينات، بحسب التوصيف الوظيفي للوظائف، وما يرتبط بها من تنظيم لعملية التدوير الوظيفي للوظائف القيادية ـ على مختلف المستويات ـ وما يتعلق بها من مهام وواجبات، في السلم والحرب.
والعمل بهذا المقصد، وإن كانت الحاجة إليه ماسة، إلا أنّ تحقيقه خلال هذه الفترة، والساحات مازالت موجودة، والمسلحون يجوبون شوارع المدن، والوحدات العسكرية مازالت ترابط خارج ثكناتها، قديكون في نظر الكثير، استهدافاً لقيادات وطنية فاعلة, ومؤثرة في العمل العسكري، وهو ما سوف يساعد على إنتاج الصراع السياسي من جديد، وتفاقم الانفلات الأمني، بل وسيخلق صراعات واسعة وعنيفة، بين مراكز القوى والتيارات الخفية داخل القوات المسلحة والأمن, ومن هنا نعلم بالضرورة، أنّ هذا العمل يتطلب أن تكون النفوس مطمئنة، والخواطر راضية، والقلوب صافية من الأحقاد، والهواجس الشيطانية، وهو ما ينبغي علينا جميعاً أن ندخل في السلم كافة، ألا وهو مؤتمر الحوار.. الحوار.. الحوار الوطني، ومن يقول: بغير ذلك..
فكأنما يمتطي الليث أو يحكم اليمنا
أو يؤانس النار أو يطلب العدما.