اخبار الساعة

نشأة الفن التشكيلي المعاصر بقلم : خالد ربيع السيد

اخبار الساعة - ادريس علوش بتاريخ: 02-09-2010 | 14 سنوات مضت القراءات : (11960) قراءة

 
 
 

مجلة اقرأ : خالد ربيع السيد

 

عندما رسم بابلو بيكاسو لوحة (آنسات أفينيون) سنة 1907م ، لم يكن يدرك بأنه يشكل منعطفاً حاداً وجذرياً في تاريخ الفن. وذلك بحسب رسالة آندريه بروتون لصديقه مصمم الأزياء جاك دوسي، التي جاء فيها: «لا أخفيك أني أعتبر لوحة "آنسات آفينيون" حدثاً جوهرياً لمطلع القرن العشرين.

 لحظة قرأ دوسي هذه العبارة في الرسالة، أدرك على الفور أن «ليه دموازيل دافينيون» هي عمل هام جداً، على رغم أنها لم تلق اهتماماً أو ترحيباً، وعرضت مرة واحدة منذ رسمها قبل سبعة عشر عاماً ، لذا سارع دوسي بعد أيام بشراء اللوحة بـ خمسة وعشرين ألف فرنك (نحو عشرون ألف يورو). ولم يخف عليه أنه يسهم في تغيير تاريخ اللوحة، ويرفع مكانتها من لوحة غير مفهومة الى رمز للفن الحديث.

 

والحق أن مجموعة من الخبراء في أعمال بيكاسو ألقو، أخيراً، الضوء على القوانين التي خطت مصير «آنسات أفينيون». فأنصار هذه اللوحة، من أمثال أندريه بروتون والناقد ألفريد بار، أسهموا إسهاماً كبيراً في رفعها الى مرتبة الاسطورة.

وانقسم الخبراء في آراءهم. فرأى البعض أن اللوحة «تحفة تمثل مرحلة فن الأقنعة في مسيرة بيكاسو (الفنية)». ورأى آخرون أنها تؤسس لولادة الفن التكعيبي. وخرجت أسرار سيرة اللوحة «ليه دموازيل دافينيون» التاريخية والموثقة الى العلن في 1988، حين حطت رحالها في باريس، للمرة الأولى منذ 1937، للمشاركة في معرض.

 
 

وفي هذه المناسبة، تمكن المؤرخون من الاطلاع على دفاتر ملاحظات عمل بيكاسو التي لم تدرس من قبل. وفحص هؤلاء مخططات اللوحة فحصاً دقيقاً، واطلعوا على دراسات قام بها بيكاسو، طوال عامين قبل وضعه اللمسات الأخيرة عليها، وتقصى الخبراء آثار ضربات ريشة رسم الفنان التكعيبي، وحركة ترددها، وتواترها. ووقفوا على المصادر التي أوحت لبيكاسو اللوحة. وقبل هذه الدراسة، غلب على الظن ان «ليه دموازيل دافينيون» انقطعت من سابقاتها، وتبين أنها تنهل من تقاليد الفن وتراثه.

 

ورأى دومينيك دوبوي لابي أنها «إبداع ثقافي». فاللوحة تعرض صورة خمس نساء ، وواحدة منهن تفتح ستارة، وتدعو الى مشاهدة مخاض الثورات الفنية، بحسب "ليو شتينبور".وفي أولى الأعوام التي قضاها في باريس، إثر وصوله اليها في 1900، تردد بيكاسو الى أوساط اجتماعية كانت في مثابة تربة خصبة غذت خياله، ووسعت آفاقه. ولقاؤه بليو شتينبور وزوجته جرترود شتاين كان منعطفاً في حياته المهنية. فهذان الزوجان جمعا أعماله.

ولاحت أولى معالم ثورة بيكاسو الفنية في بورتريه رسمه لجرترود شتاين، في 1906. وأبرز بيكاسو معالم وجه السيدة شتاين، وبدا ان هذا الإبراز خطوة على طريق صبغ رسومه بطابع هندسي .

 

لكن بيكاسو لم يكن السبّاق الى رسم النساء المتطلعات، بل سبقه الى مثل هذه اللوحات سيزان وماتيس ودوران. وتأثر بيكاسو بأعمال غريكو وآنغر. فموضوع آنسات أفينيون لم يكن ثورياً، وطوال تسعة أشهر، انصرف بيكاسو الى «بناء» صور لوحته، على رغم تردده في اختيار الألوان والأشكال والخيوط، وتركه رسم اللوحة ثم استكمالها. وكتب بيكاسو في دفتر ملاحظاته: «رسمت نصف اللوحة. وشعرت أن ما رسمته لا يطابق ما أريد. فرسمت شيئاً مختلفاً، وتساءلت: هل عليّ إعادة رسمها؟، ثم قلت لنفسي: لا لن أعيد رسمها. سيفهمون ما أردتُ فعله».

والحقيقة أن بيكاسو أخطأ في تقدير ردود الناس على لوحته. ولم يستحسن الوسط الذي انتسب بيكاسو اليه، وهو وسط يعتد بالخروج على المألوف، ارتداء سيدتين من نساء اللوحة أقنعة، ولم يستسغ «بذاءة» آنسات أفينيون.

 

والواقع أن «ليه دموازيل» آذنت بولادة الفن المعاصر. فبيكاسو جمع أحدث الأشكال الفنية في عصره، وأخرجها إخراجاً تجاوز المألوف والسائد. وبقيت «آنسان أفينيون» حبيسة مشغل بيكاسو، ولم تعرض قبل 1916. ولم يرق إسم اللوحة لبيكاسو، على رغم أنه أراد تسميتها في البدء، «بورديل دأفينيون» (مبغى أفينيون). فأفينيون هو اسم بلدة على مقربة من برشلونة (الفرنسية) بجوار منزل بيكاسو السابق. ويقول بيكاسو: «كنت أتردد الى هذه الجادة لأشتري الأقمشة والأوراق والألوان الزيتية. واسم بلدة أفينيون مألوف لديّ. مسقط رأس جدّه ماكس (جاكوب) هو أفينيون، وكنا نروي نكتاً عن اللوحة (التي ستحمل اسم بلدة جده ماكس). فجدّة ماكس هي واحدة من نساء المبغى، وفرناند (صديقة بيكاسو) هي الثانية، وماري لورانسان الثالثة».

 

وأخيراً لا شك في أن لوحة «الجورنيكا»، ولوحة «ليه دموازيل دافينيون»، هما في مثابة لوحة فنية مزدوجة رفعت صاحبهما الى مصاف مبدع القرن العشرين الاول. فوجه اللوحة الاولى يندد بالحرب والبربرية، ويؤذن بـ «الفنان الملتزم». والثاني يبتكر طرائق رسم مبتكرة زرعت الاضطراب في أصول الرسم الموروثة من عهد النهضة.

 
 
 
 
المصدر : بريد بريس-ادريس علوش
اقرأ ايضا: