الشرق الأوسط: هل يترك العرب اليمن لإيران؟
سعت إيران خلال وقبل الشهور التي شهدت الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الرئيس صالح في اليمن إلى تكثيف وجودها الاستخباراتي والسياسي بل والعسكري في الخاصرة الجنوبية للجزيرة العربية.
ومن قبل كانت أجهزة الاستخبارات السورية والإيرانية تتعاون في نقل مقاتلين حوثيين من اليمن إلى إيران أو لبنان بعد وصولهم إلى دمشق، وحصولهم على أوراق سفر أخرى للتمويه على وجهة سفرهم الحقيقية، حسب اعتراف مقاتلين حوثيين حينها.
وخلال السنوات الأخيرة رصدت أجهزة الاستخبارات اليمنية بالتعاون مع أجهزة أخرى إقليمية ودولية أعدادا متزايدة من السفن المحملة بالأسلحة، التي تأتي من إيران، وتقصد عددا من الجزر اليمنية الصغيرة، وغير المأهولة بالسكان في البحر الأحمر بالقرب من جزيرة ميدي، لتفريغ حمولتها ثم نقل هذه الحمولة عبر قوارب صيد صغيرة إلى الساحل اليمني، ومن ثم إلى وجهتها عبر البر إلى محافظة صعدة حيث توجد سوق «الطلح»، وهي واحدة من أكبر أسواق السلاح في اليمن، والتي يسيطر عليها حاليا الحوثيون، إضافة إلى وجود نسبة كبيرة من تجار السلاح اليمنيين ممن ينتمون إلى هذه المحافظة، والذين في ما يبدو دخلوا في حالة من الوفاق مع الوجود العسكري الحوثي، بل وأسهموا في دعم الترسانة العسكرية الحوثية بأنواع مختلفة من الأسلحة. وهنا يلحظ أن الحوثيين ينسقون على خطين: الخط الأول هو خط تجارة السلاح التي يسيطر عليها تجار من محافظة صعدة وغيرها، وبعضهم وضعت أسماؤهم على القائمة السوداء في اليمن وخارجها، وما زالوا يتمتعون بنفوذ واسع، بل وولى الحوثيون بعضهم أعلى المناصب الإدارية في محافظة صعدة التي يسيطرون عليها، والخط الثاني هو تهريب السلاح عن طريق «قوارب الصيد المسلحة» التي تحمل السمك على السطح والسلاح في العمق، فيما يشبه الحكاية العربية القديمة التي لخصها بيت الشعر:
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلاً يحملن أم حديدا
عندما دفعت الزباء حياتها ومملكتها لجهلها بأن الجمال يحملن المقاتلين والسلاح بدلاً من الثياب والطيوب الفارسية.
وقبل أيام ضبطت سفينة إيرانية بعد تفريغ نصف حمولتها في جزيرة «طنم»، ومن ثم تهريب هذه الحمولة إلى محافظة صعدة، حسبما نقلت «الشرق الأوسط» عن مصدر حكومي يمني.
وفوق ذلك أكدت تقارير توجه الحوثيين نحو شراء وتأجير محلات وأراض في محافظة عدن وعلى ساحل البحر العربي، وهو الأمر الذي لم ينفه الناطق باسم الحوثيين، بل وقال في لقاء تلفزيوني إن من حق جماعته أن «تشتري حيث تشاء»، ولا يمكن للمراقب أن يتصور أن عملية تأجير محلات في محافظة عدن وعلى سواحل بحر العرب من قبل الحوثيين عملية عفوية لأغراض تجارية، بل يمكن ربط الأمر بسهولة بتدفق السلاح إلى اليمن من إيران وتركيا في شحنات مشبوهة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأمن اليمني قد أحبط عددا من محاولات تهريب السلاح عبر البحر الأحمر وأخذنا كذلك طول المسافة البحرية التي يتحتم على السفن قطعها للوصول إلى الجزر الصغيرة التي تفرغ فيها شحنات الأسلحة في البحر الأحمر، فإن توجه الحوثيين لسواحل بحر العرب يعني محاولات السير في الاتجاهين للحصول على السلاح: عبر البحر الأحمر أو بحر العرب.
لم يعد لعب إيران في الساحة اليمنية بالسر، حيث تغير الوضع تماما، وأصبح اليمنيون يترحمون على الأيام التي كان فيها سفير طهران في صنعاء يقوم بزيارات سرية لمحافظة صعدة، حين كان الحوثيون ينكرون علاقتهم بإيران، أما اليوم فقد أعلنت قيادات حوثية أنها تسعى لربط اليمن بمحور المقاومة للمشروع الأميركي الإسرائيلي، وهي نغمة إيرانية تعني في حقيقتها ربط اليمن بالمشروع الإيراني الساعي إلى الإضرار بأميركا وإسرائيل إعلاميا في الغالب، والإضرار بالعرب في بنيتهم الاجتماعية والثقافية والدينية على أرض الواقع.
يكاد اليمن اليوم يأخذ شكل لبنان، حيث تسعى إيران إلى تقوية جماعة تدين لها بالولاء الطائفي، وترفع شعارها، وتستقبل أسلحتها، وتبني لنفسها كيانا شبه مستقل عسكريا وسياسيا في منطقة جبلية صعبة التضاريس في محافظة صعدة شمال البلاد، وهذا يشبه إلى حد كبير الاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع الملف اللبناني، حينما اطمأن العرب إلى أن اتفاقية الطائف مثلت مخرجا للبنان من اقتتاله الطائفي، في حين بدأت إيران في العمل على بناء ميليشيات حزب الله التي اختطفت اليوم الدولة اللبنانية بالكامل. فهل يراد للحوثيين أن يكونوا دولة داخل الدولة على غرار حزب الله، خاصة أن زعيمهم يحاول كثيرا الظهور بمظهر «سيد المقاومة» في لبنان، في كل حركاته وسكناته، من الشال الفلسطيني على الكتفين، إلى تقليد حركات اليدين، ورفع السبابة، إلى الاختباء في سراديب كهوف جبال صعدة، ومخاطبة جمهوره من وراء جدر في إيهام لهذا الجمهور المضلل في أغلبه بأن من يخاطبهم مستهدف أمنيا من قبل الأميركيين والإسرائيليين، على الرغم من أنني لا أزال أذكر ضحكة مجلجلة للسفير الأميركي سمعتها وأنا ألقي عليه سؤالا حول ما إذا كانوا يعتبر الحوثيين أعداء لهم، في حوار سابق نشر في هذا الجريدة، وعلى الرغم من أن الأميركيين لا يهادنون في سحق وقتل أعدائهم الحقيقيين، كما هو ملحوظ من ضربات الدرون التي تستهدف عناصر «القاعدة» في البلاد؟!
ولو تركنا الشمال والتغلغل الإيراني فيه جانبا إلى الجنوب، فلا يبدو أن جنوب البلاد أحسن حظا من شمالها في ما يخص حجم التدخلات الإيرانية، على الرغم من أن الجنوب اليمني يختلف مذهبيا عما عليه الحوثيون في شمال الشمال، وهو ما يصعب مهمة الإيرانيين هناك، غير أنه في مقابل الصعوبة التي يهيئها الفارق المذهبي في الجنوب فإن العامل الجغرافي ربما يعمل على تيسير المهمة جنوبا، حيث القرب النسبي للسواحل اليمنية في الجنوب من السواحل الإيرانية، وحيث الامتداد الجغرافي الواسع مع تجمعات سكانية تتمركز في مدن محددة ووجود أمني خفيف، ومع وجود تيار ضمن الحراك الجنوبي أعلن أنه يقبل الدعم من إيران، بل وطالبها به، ونقل مقر زعيمه إلى بيروت حيث يعمل «سيد المقاومة» وحزبه كذلك على تنسيق العلاقة بين طهران وهذا التيار، وحيث يسعى الحوثيون إلى الوجود في الجنوب كما مر بنا.
وقبل شهور طالب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إيران «بالكف عن تدخلها في الشأن اليمني»، ورفض لقاء الرئيس أحمدي نجاد في نيويورك في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، واتهم إيران صراحة بدعم الجماعة الحوثية المسلحة، والسعي لدعم بعض تيارات الحراك الجنوبي بالسلاح.
ومؤخرا أفاد تقرير حكومي أميركي نشرته «الشرق الأوسط» بأن طهران يوجد لديها «30 ألف عنصر استخباراتي حول العالم، ينتشرون على نطاق جغرافي يمتد من لبنان إلى الأرجنتين». وذكر التقرير أن وزارة الاستخبارات الإيرانية توفر الدعم المالي واللوجيستي لعناصر من المخابرات الإيرانية في اليمن في حين يقوم الحرس الثوري بالإشراف على العمليات الميدانية. ولا يمكن بالطبع المرور بهذا التقرير من دون الإشارة إلى ست خلايا تجسس إيرانية أعلن اليمن ضبطها وتفكيكها تعمل في عدد من المدن اليمنية شمالا وجنوبا. والأسبوع الماضي نفى سفير طهران في صنعاء في مؤتمر صحافي تدخل بلاده في الشأن اليمني وتساءل باستخفاف «ماذا تريد إيران من التجسس على اليمن؟ هل على المفاعل النووي أو على اقتصاد اليمن أم على معسكراته؟». وهذا كلام يراد به التمويه على الهدف الحقيقي للإيرانيين في اليمن، وهو تطويق الجزيرة العربية من جنوبها بعد أن طوقوها من الشرق في العراق والشمال في لبنان وسوريا.
وإذا كانت إيران قد استطاعت أن تلعب دورا محوريا تخريبيا للأسف داخل لبنان في ظل تعاون كبير من قبل نظام الأسدين: الأب والابن، وإذا كان دورها في تعطيل التحول السياسي في سوريا وإطالة معاناة الشعب السوري ظاهرا للعيان، وإذا كان دورها في العراق لا يحتاج إلى خبرة خبير للتعرف على طبيعته وأهدافه، فإننا يمكن أن ندرك ما يمكن أن تفعله إيران فيما لو استمر تجاهل تنامي نفوذها في الخاصرة الجنوبية للمنطقة العربية، في ظل الفوضى الأمنية التي يشهدها اليمن، ما لم تكن هناك استراتيجية عربية تعمل على مواجهة هذا النفوذ المتزايد في البلاد قبل أن يقول قائل، لا سمح الله: «هذا ما كنا نحذر منه».