" الحضارة والفكر العالمي" لمصطفى عبد القادر غنيمات
ونشوء الحضارة وتطورها لا يمكن تفسيره بعامل واحد،مهما كانت درجته من الفاعلية والتأثير،بل إنّ التفسير المنطقي المعقول والواقعي هو الذي يأخذ بعين الاعتبار التفاعل والتكامل بين جملة من العوامل أو الشروط،ومنها:العامل الاجتماعي،والعامل الاقتصادي،والعامل الطبيعي أو البيئي،والعامل السياسي،والمعتقدات والقيم والنّظم الأخلاقية والاجتماعية،واللغة،والكتابة.
والتأمّل في الحضارات،وتعليل أسباب قيامها ومن ثم اضمحلالها من الأمور التي سلبت لبّ الكثير من العلماء،وجعلتهم يلتفتون إليها بكلّ ما وهبوا من أدوات،ولعلّ ابن خلدون،وشبنجلر،وتوينبي من أشهر من توقفوا عند هذه القضية،وكانت لهم نظراتهم وآراؤهم التي خلّدتهم في سِفْر المتأملين في سيرة الحضارات والأمم.
والفكر في كلّ الحضارات هو الجانب المعنوي المهم للوجه المادي للحضارة،بل قد يكون المحرّك الحقيقي للجانب المادي والمشكّل له،وبدونه لا يمكن أن نسمّي أيّ منجز إنساني بأنّه جزء من منظومة حضارية فاعلة وحقيقية. وهو ذلك روح الحضارة،أو جوهرها الداخلي،وهو جوهر له علاقة جدلية دائمة ومتفاعلة مع اللغة؛ولا غرو في ذلك،فاللغة هي أداة العقل البشري في إنتاج المفاهيم والتصورات والأفكار المجرّدة،وذلك عبر أساليب متباينة من التفكير بدأت بالتفكير الأسطوري/السّحري،ثم بالتفكير الفلسفي،انتهاءً بالتفكير العلمي.
ففي مرحلة التفكير الأسطوري سادت الأساطير في المجتمعات البشرية البدائية ردحاً طويلاً من الزمن تحت تأثير سلطة التقاليد التي لا تسمح بأيّ نقد أو خروج عن سلطتها،ومن ثم كان الاعتقاد الجمعي بتلك الأساطير الذائعة يكفل توازن الجماعة واستقرارها،لكنّه كان توازناً يتّسم بالجمود،وقوامه المحافظة على الموروث الأسطوري،فكان يتعذّر على الفرد الخروج على الجماعة لذوبانه فيها.
وقد اضطلعت الأسطورة في تلك الفترة بوظيفة كفالة طمأنينة الحياة للإنسان البدائي،وقد سعى الفكر في تلك الحقبة إلى إرضاء شغفه بالمعرفة عن طريق منظومات تفسيرية أسطورية ألبسها ثوب الشّعر الجميل،والفن الرائق ليروي ظمأه إلى الحقيقة،ويطمئن إليها.
وقد شغل الكثير من الباحثين والاجتماعيين بدراسة البنية الاجتماعية للأقوام البدائية لفهم عقلياتهم،ونفسياتهم. ويعدّ العالم الاجتماعي الفرنسي ليفي برول من أهم من بحث في هذا الأمر،وكتب ستة كتب مشهورة في هذا الأمر،ويرى في هذه الكتب أنّ العقلية البدائية والعقلية المتحضّرة مختلفتان كلّ الاختلاف،وكأنّ هناك انفصالاً بينهما.
ومن هذا المنطلق نفسه تعدّ الأسطورة هي حقيقة البدائي التي آمن بها كلّ الإيمان،وفسّر العالم وفقها،فالأسطورة عند البدائي هي محاولة للإجابة عن الأسئلة التي كان يطرحها لتفسير مختلف الظواهر المحيطة به،في حين أنّ الحقيقة هي محاولة حديثة ومعاصرة للإجابة عن نفس الأسئلة أو مايماثلها.
ثم جاء وقت من الأوقات خرج فريق من البشر من طور الأسطورة والخيال الخرافي،فألفوا شيئاً فشيئاً الانصراف إلى الحكمة،يطلبونها،ويبحثون عنها،وأولئك عرفوا بأنّهم أصحابها،وهم الفلاسفة.
وعندما انهار بنيان الأسطورة،وانهار عصرها ظهرت الفلسفة،وأدّى ظهورها إلى الاستعاضة عن الأساطير بتفكير الإنسان في الكون والحياة وفي ذاته،ومن ثم ظهر الفيلسوف،وبعد ذلك ظهرت الفلسفة التي تجنّد الساحر والكاهن في ذلك العصر من أجل محاربتها بحجة الحفاظ على التراث القديم.
والفلسفة كما عرّفها العالم اليوناني فيتاغورس هي محبة الحكمة،والحكمة هنا تأتي بمعنى المعرفة الشمولية بالإنسان والكون والحياة.وبشكل عام نستطيع القول إنّ الفلسفة تتجلّى في جملة أفكار متسقة تتناول الموضوعات التي تتعلّق بالإنسان والكون والحياة،فهي المعرفة الشمولية التي لا يحدّها حدّ،ولا يحصرها حصر.
وفي المرحلة الأخيرة من رحلة العقل البشري جاء العلم ليشغله ويكونه ،فقد استقلّت العلوم عن الفلسفة الأم،وتحدّدت موضوعاتها ومناهجها،ومن ثم أصبح للتفكير العلمي سماته الخاصة التي تميّزه عن التفكير الفلسفي. فالعلم مجموعة من الحقائق النظرية المتسقة والمتعلقة بموضوع معين من موضوعات الوجود، ويتمّ التوصّل بها بمنهجية عليمة معينة،ويجرى التحقّق من صدقها المنطقي والواقعي،إنّه معرفة الواقع باستخدام منهج علمي محدد.
ومن أهم خصائص المعرفة العلمية أنّها معرفة علمية وضعية تستند إلى موضعة الظاهرة المراد دراستها،أيّ وضعها خارج الذات المدروسة،وأنها معرفة علمية موضوعية،وأنّها ذات معرفة علمية كمية،ولها خاصية التعميم،وقادرة على التنبّؤ،وذات بعد نظري.
وليس خفياً على عارف أنّ المعرفة العلمية تمتلك روحاً خاصة تتميّز بحرية البحث،والاعتقاد بمبدأ الحتمية،وتملك الشّك والروح والانتقادية،وعندها مقدار كبير من التجرّد،وتتحلّى بالصفات الأخلاقية.
ومن ناحية أخرى يؤكّد العلماء على أهمية التجربة في البحث العلمي،كما يلزمون أنفسهم ما استطاعوا بقواعد عامة للبحث العلمي،منها:البداهة أو الشّك،والتحليل،والتركيب،والاستقصاء والمراجعة.
ويشرع المؤلّف في كتابه يرحل في ركب الحضارة الإنسانية متتبّعاً لها في رحلتها الزمانية والمكانية،ومبرزاً أهم ملامح الحضارة والمنجز الإنساني والخصائص المميزة في تلك التجارب الحضارية المختلفة.ويذكر المؤلّف استناداً على آراء مؤرخي العلم إنّ العلم انتقل من وادي النيل ووادي الرافدين في مصر وبابل إلى الإغريق إلى العالم العربي والإسلامي مشرقاً وغرباً،ومنه انتقل العلم إلى إيطاليا في عصر النهضة الأوروبية،ومن إيطاليا إلى فرنسا وهولندا،ثم إلى انجلترا واسكتلندا في عصر النهضة الأوروبية،وواصل سيره في خط مواز للازدهار الاقتصادي ليصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية واليابان ومراكز عديدة في شرق آسيا.
ويتوقّف المؤلّف في فصل خاص عند الحضارة العربية الإسلامية،وتكون وقفته بشكل خاص عند المنجز الطبي والزراعي في هذه الحضارة التي تقدّمت وازدهرت بفضل حرية الفكر،ورعاية الخلفاء والأمراء والولاة للعلم والعلماء،وإنفاقهم بسخاء في هذا المجال،واستعلاء العلماء بعلمهم وزهدهم في الترف والسلطان،والاستعداد الذهني والصّبر والمثابرة،والروح النقدية لدى علماء العرب التي كانت سبباً رئيسياً في تطوّر العلم.
وهذه الحضارة العربية الإسلامية قد اتّسمت بمجموعة من الخصائص المميزة،منها أنّها حضارة إيمانية،وإنسانية،وذات نزعة سلمية وتسامحية،وهي تدعو إلى الحرية والمساواة والعدل والإخاء والمحبة وتحرير الرقيق،وذات نزعة شورية،ونزعة عقلية وإخلاقية،وهي تأمر بالمعروف،وتنهى عن المنكر،وتُعنى بالتأمين والضمان الاجتماعي،وتقوم على العلم،وتتبنّى الجهاد منهجاً للحياة،وتسعى دائماً للتوازن بين المادة والروح.
د.سناء الشعلان/ الأردن