القدس تعود إلى مدينة داوود !
خلال المؤتمر الصهيوني الأول في بال السويسرية عام 1897، عمل زعيم الصهيونية "ثيودور هيرتزل" على طمأنة الجماعات اليهودية الدينية المتشددة، عن أنه يسعى إلى العودة إلى أرض صهيون، ولكن لا ينوي الإعلان عن دولة، وكان ترك لتحقيقها أمام مؤيديه مدة خمسين عاماً أخرى، وكان ذلك مردّه، أن لا تذهب مخططاته هدراً، أمام تلك الجماعات التي تعارض قيام الدولة، لاعتقادها بأن الاندماج في الدول التي يعيشون بها، هو الأجدى بالنسبة لهم، وثانياً، أن المسيح هو الأحق بإعلان الدولة السعيدة، وأن عليهم الانتظار فقط، وعلى الرغم من أن طمأنته اعتُبرت خطوة إلى الوراء، لكنها مثّلت خطوات واسعة للأمام باتجاه المشروع الصهيوني بشكلٍ عام.
كانت العين اليهودية - متديّنة وصهيونية علمانية- دائماً مصوّبة نحو القدس باعتبارها الرمز الديني الوحيد بالنسبة لها، حيث توالت الاحتكاكات بشأنها ضد الفلسطينيين، حتى قبل توليد الدولة، ففي العام 1929، وبعد أن وجدت تلك الجماعات من القوّة ما يمكنها من غرس أرجلها وبسط سيطرتها على أجزاء من المدينة، وفي ظل الاستقواء بالاحتلال البريطاني، قامت بمحاولة الاستيلاء على أجزاء من المسجد الأقصى، وعلى إثرها قامت ثورة البراق في تلك الفترة، حيث سالت أثناءها الكثير من الدماء العربية والفلسطينية، ضد تغوّل تلك الجماعات ودفاعاً عن المقدسات، وزادت شراسةً، منذ احتلال إسرائيل الكامل للمدينة في العام 1967، حيث سارعت إلى التسجيل، بأنها تعود إلى داوود، وإن ليس في التو واللحظة، فببطء وبصبر كبير وانتهاز الفرص.
أثمرت بجهد وبغير جهد، جُل عمليات التهويد للمدينة المقدّسة، منذ الاحتلال وإلى حد الآن، بدءاً بالتضييق على المقدسيين وبالمحاولة في إحراق المسجد الأقصى عام 1969، ومروراً بعمليات الحفر والتنقيب، سعياً للحصول على آثار يهودية، تثبت وجود آثاراً لداوود الملك قبل 3,000 عام، وبالإقدام أيضاً، على سلسلة اعتداءات فاصلة، كفتح نفق الأقصى في العام 1996، وتعمّد "أرئيئل شارون" اقتحامه أواخر العام 2000، والذي كان سبباً رئيساً في اشتعال الانتفاضة الثانية والتي اكتسبت اسم (انتفاضة الأقصى)، وانتهاءً بما يحدث الآن من ممارسات عنف واستيلاء، بلغا ذروة الممارسات الاحتلالية ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم.
إسرائيل تلقت محلياً ودولياً، سيولاً من الاحتجاجات والانتقادات والتنديدات الأخرى، جعلتها تهدأ قليلاً، وربما يظن البعض أنها بصدد التراجع عن ممارساتها، لكنها تثبت بأنها ليست غبيّة، أمام غيرها الأقل ذكاءً والأكثر انشغالاً، فهي كما المعتاد تعتمد التراجع خطوة واحدة، في مقابل خطوات ناجحة إلى الأمام، فيُخيّل للبعض أنها تتراجع عن ممارسةٍ ما، لكنه ليس تراجعاً بالكليّة وإنما إرجاء لأجلٍ فقط، وإمّا للانتقال إلى خطوة أخرى أكثر إيلاماً.
إسرائيل بالنسبة إلى القدس بخاصة، سعت جهدها، من أجل إنهاء ملفاتها، من خلال مصادرتها للأراضي التابعة لها، وخلق أكثر من سبعة عشر مستوطنة حولها، بعد تمكّنها أمام المجتمع الدولي من إثبات أن هذه الأرضي ليست مسجلة للفلسطينيين، كما واستطاعت التسلل وبناء ما يزيد على عشرة أحياء يهودية داخل العمق المقدسي، بعد قيامها بعمليات تزوير واسعة وحشوها بمئات العائلات اليهوديّة، بدعوى أن الأملاك ليست فلسطينية، وإنما هي أملاك يهوديّة مُستردّة، واعتبار أن ما يدفعونه من أثمان، هي مقابل إخلائها طواعيةً.
رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" الذي رفض احتجاجات وانتقادات، دولية ومحلية في شأن الممارسات الاحتلالية بالنسبة للقدس وللأقصى، هو في العادة يؤكّد في كل مناسبة أمنيّة ومستقرّة، بأن القدس ليست مجالاً للنقاش كمدينة موحدة وعاصمة لإسرائيل، وآخر ما يفعل، هي طمأنة المحتجين والمنتقدين، بأن الأوضاع المقدسيّة هي في أحسن أحوالها، وبأن لا نوايا بتغيير مكانة الأقصى، لكن التواريخ والأفعال الإسرائيلية لا توحي بذلك، والأقرب أنها تأتي من قبيل تكرار العادة، خطوة إلى الوراء، لتتلوها خطوات متقدمة أخرى، وإن كانت بغير مسمىً أو تحديد.
وزير الاستيطان "أوري أريئيل" لا يُحب الدوران، كما "نتانياهو" فهو يُعلن بدون أي اكتراث، لأي عربي وإسلامي، بأن القدس لليهود، والهيكل سيتم بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، كونه مُقام على أكثر الأماكن قدسيّة لإسرائيل، وكان زعيم المتشددين ووزير الاقتصاد "نفتالي بينيت" الذي هو أيضاً لا يعترف بالنفاق أمام العرب والمسلمين بخاصة، قد أبدى سروره بأن المدينة باتت ذات غالبية إسرائيلية، وعبّر صراحةً عن أن إسرائيل، لن تدّخر جهداً في السعي لإرجاع مدينة داوود إلى أيادٍ يهودية، باعتبارها المكان الذي كُتبت فيه التوراة المقدّسة، مما يعني بأن القدس ستظل إلى الأبد تحت السيطرة الإسرائيلية، هذا ما لديهم، ولننظر ماذا نحن بفاعلين؟
خانيونس/فلسطين