الحوثيون وهادي.. انقلاب مغلف بالاستقالة
بعد الإطاحة بالرئيس هادي عبر انقلاب عسكري تم تغليفه بخطاب الاستقالة، وأيضاً الإعلان عن استقالة حكومة خالد بحاح، تدخل الأزمة اليمنية نفقاً مجهولاً مفتوحاً على كافة الاحتمالات، وسط مخاوف حقيقية من اندلاع حرب أهلية شاملة، وتشظي البلاد إلى كيانات اجتماعية متصارعة ترفع لافتات ما قبل الدولة، خاصة وأن مختلف القوى السياسية الفاعلة تمر بمرحلة توازن الضعف، وغير قادرة على المبادرة وتصدر المشهد والحفاظ على وحدة المجتمع اليمني وقيادة ثورة شعبية موحدة ضد جماعات العنف والإرهاب التي تريد السيطرة على السلطة وثروة الشعب.
كانت نهاية حكم الرئيس هادي متوقعة، استناداً إلى معطيات الواقع، خاصة عربدة ميليشيات الحوثيين، والتنازلات التي قدمها لهم، ولم يحقق شيئاً ذا أهمية بخصوص المطالب التي خرج من أجلها شباب اليمن في ثورة شعبية سلمية صاخبة اندلعت تزامناً مع ثورات الربيع العربي مع مطلع العام 2011. غير أنه لا يمكن القول إن الرئيس هادي خان الأمانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكنه نسي أن الشعب أيد اختياره رئيساً توافقياً انتقالياً لكي يعبر باليمن إلى مرحلة ما بعد الثورة، لكنه ذهب بعيداً، وعمل على تمديد الأزمات المختلفة من أجل أن يمدد لنفسه في السلطة، وفجأة، يخسر كل شيء في لحظة ضعف وقهر وذل، وكان بإمكانه أن يغتنم الفرصة وأن يصنع من نفسه زعيماً شعبياً، ويعود للسلطة إن شاء من بوابة الانتخابات.
وهنا تساؤلات تطرح نفسها، مثل: لماذا كانت نهاية حكم الرئيس هادي مأساوية رغم قصرها؟ وما الذي حققه هادي خلال سنوات حكمه الثلاث؟ وكيف أدار هادي البلاد خلال المرحلة الانتقالية؟ ولماذا خسر هادي حلفاءه الواحد تلو الآخر حتى سقط وهو بلا حلفاء؟ ومن هو المستفيد الأكبر من الإطاحة بهادي؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة بعد الانقلاب؟ أسئلة سنجيب عنها قدر الإمكان في السطور التالية.
* استقالة أم انقلاب؟
اختلفت توصيفات المتابعين للشأن اليمني بشأن مسألة الإطاحة بالرئيس هادي، بين قائل بأن ذلك انقلاب عسكري مكتمل الأركان، وقائل أن ما حدث استقالة طبيعية في ظرف غير طبيعي. ومن خلال معطيات الواقع، يبدو أن توصيف ما حدث بأنه “انقلاب” هو الأقرب إلى الحقيقة، لكن المخرج أراد أن يغلف الانقلاب بـ”الاستقالة”، حتى يتهرب من المسؤولية عن جراء ما حدث، وحتى لا يتحمل مسؤولية تبعات ما سيترتب على ذلك من فوضى وربما حرب أهلية شاملة.
ومنذ أحداث 21 سبتمبر الماضي، المتمثلة بدخول ميليشيات الحوثيين العاصمة صنعاء، والسيطرة على أهم مؤسسات الدولة السيادية، والتحكم في كل شؤونها، بتواطؤ واضح ومخزٍ من قبل الرئيس هادي ووزير دفاعه السابق، محمد ناصر أحمد، ترسخ الوضع الشاذ الذي فرضته تلك الأحداث، ثم تسلل هذا الوضع إلى محافظات أخرى، بعد ترسخه لفترة طويلة في محافظة صعدة، التي سلمها الرئيس السابق علي صالح للحوثيين بعد اندلاع الثورة الشعبية السلمية ضد نظام حكمه الفاسد.
وإزاء هذا الوضع الشاذ، لم يتصرف الرئيس هادي كرجل دولة، ورئيس، يحظى بدعم شعبي ودولي واسع، بل فقد كان يعتقد أن هذا الوضع يصب في صالحه، خاصة وأنه يُعتبر -أي هادي- أحد صناع هذا الوضع الذين انخرطوا في مؤامرة تستهدف حزب التجمع اليمني للإصلاح، كما انخرطت في المؤامرة قوى أجنبية، ورسمت خطوطاً محددة لجماعة الحوثي لتتحرك داخلها، لكن الجماعة التي تعتقد أنها ثارت وسيطرت على الدولة وحققت انتصارات ساحقة، رغم أنها لم تخض أي معركة حقيقية، خرجت عن سياق المؤامرة واتجهت نحو هدفها المنشود، وهو السيطرة على السلطة والثروة استناداً إلى خرافات فقهية طائفية وعنصرية وسلالية عفى عليها الزمن، وراحت تلهث وراء أطماعها بعيداً حتى عن أولئك الذين قدموا لها خدمات جليلة، مثل المخلوع علي صالح وزمرته، وأيضاً الرئيس هادي نفسه.
كان دخول ميليشيات الحوثيين إلى محافظة عمران والسيطرة عليها، ثم السيطرة على العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى، شبيهاً بغزوات القبائل الجرمانية الهمجية التي اجتاحت وسط وجنوب قارة أوروبا في العصور القديمة والوسطى، ودمرت كل شيء أمامها، وجرفت معها كل المفاهيم الجيدة التي بدأت تشق طريقها إلى النور.
لم تكن تلك القبائل القادمة من كهوف شمال قارة أوروبا تحمل بذرة من ضمير إنساني، كما أنها كانت لا تعرف معنى الدولة ووظائفها الاجتماعية، فتعاملت مع سكان البلاد الأصليين بمنطق السيف والقتل والنهب والسرقة، وهو الأمر الذي يتكرر تماماً هذه الأيام في اليمن من قبل جماعة الحوثي، الجماعة القادمة من كهوف شمال الشمال، وتعتنق مفاهيم القرون القديمة والوسطى المظلمة، تجرف كل شيء أمامها، وتتعامل مع الجميع بمنطق الفيد والنهب والسرقة، لم تفرق بين معارض لها أو موالٍ لها أو مجامل لها خوفاً على مصالحه وحياته، تنهب وتسرق الكل، أسلحة الجيش، ومؤسسات الدولة، والشركات والمؤسسات التجارية، وتفرض مبالغ مالية طائلة على التجار ورجال الأعمال الذين لم تصادر ممتلكاتهم وشركاتهم التجارية، وتفرض على المزارعين في المناطق التي تحت سيطرتها ما يسمى بـ”زكاة الخمس”، وحاولت نهب بيت لامرأة كانت زوجة لحميد الأحمر وطلقها قبل نحو عشرين سنة، وأعطاها وثيقة بملكية البيت الذي كانت تسكنه معه، كما أوقفت هذه الجماعة رواتب عدد من الأحرار الذين فجروا ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد نظام الحكم الإمامي البائد.
افتتحت شهية الحوثيين للمزيد من النهب والجشع، فأقدموا على محاصرة الرئيس هادي داخل منزله، وسيطروا على دار الرئاسة، وحاصروا رئيس الحكومة ووزير الدفاع في مكان إقامتهما داخل القصر الجمهوري، واختطفوا مدير مكتب رئيس الجمهورية، كل ذلك من أجل الضغط على الرئيس هادي كي يخضع لأوامرهم المتمثلة بقصف قبائل محافظة مأرب بسلاح الطيران، وأن يصدر حزمة من القرارات الجمهورية بتعيينهم في مناصب حساسة وأخرى مستحدثة في مختلف مفاصل الدولة، منها، منصب نائب رئيس الجمهورية، ومنصب نائب مدير مكتب رئاسة الجمهورية، ونواب وزراء في معظم الوزارات الهامة، ورئاسة هيئات للرقابة والتفتيش في جميع الوزارات والمؤسسات والإدارات الحكومية، ومناصب أخرى عسكرية ومدنية رفيعة، رغم أنهم بلا مؤهلات دراسية، ومن سبق تعيينهم في بعض المناصب كانوا يعملون كبائعي “قات” في محافظة صعدة وغيرها.
مطالبة الحوثيين للرئيس هادي بأن تكون المناصب المذكورة من نصيبهم، تأتي رغم أن هادي كان قد قدم لهم تنازلات كثيرة، وعين كثيراً منهم -أي الحوثيين- في مناصب مختلفة، عسكرية ومدنية تشمل محافظي محافظات وقادة في الجيش وغيرهم، ورغم كل ذلك، تعرض الرئيس هادي شخصياً للإيذاء، فمن أجل الضغط عليه حتى يستجيب لهذه المطالب، تحت لافتة “الشراكة”، مورست ضده مختلف الضغوط، حتى أنهم طردوا حراسته وفرضوا عليه الإقامة الجبرية داخل منزله، بعد نهب بعض محتوياته أمام عينيه، ولم يجد الرئيس هادي مخرجاً من هذا الوضع سوى الاستقالة، تحت ضغط انقلاب عسكري مكتمل الأركان، تخلله تسريبات لتسجيلات صوتية أرادوا من خلالها إثبات شيء لم يتحدث عنه مطلقاً، بل فقد كان يتحدث فيه عن دولة اتحادية ويمن جديد، ولم يرد في التسجيل عيب إلا كلمة غير لائقة، وهي كلمة تهون إذا قارناها بممارسات الحوثيين الهمجية والمتخلفة، يقودهم من الخلف علي صالح وزمرته.
* اليمن خلال فترة رئاسة هادي
اتسمت فترة رئاسة عبدربه منصور هادي لليمن بعدم الاستقرار، مثلها مثل فترات حكم رؤساء اليمن السابقين، كما استشرى خلال هذه الفترة خطاب الكراهية بين مختلف القوى السياسية، وبروز التدخل الأجنبي، وتبخر قوات الجيش كحامٍ رئيس للدولة، الأمر الذي مكن الجماعات المسلحة والإرهابية من التحرك على الأرض والسيطرة، ويعود ذلك إلى طبيعة المرحلة الانتقالية، وما تخللها من مؤامرات تحت وطأة تأثير الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، والمناخ السياسي السائد في المنطقة المناهض للحركات الإسلامية السنية، وتبعات الانقلاب العسكري في مصر، وعدم تمكن الثورة السورية من تحقيق تقدم كبير على الأرض، والحرب الأهلية في ليبيا، والتقارب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
كشفت الأزمات المتلاحقة التي شهدتها البلاد، وعجز الرئيس هادي عن حلحلتها، أن قدراته القيادية لم تكن في مستوى المسؤولية التي تولاها، رغم أنه كان يحظى -في بداية رئاسته- بدعم وسند شعبي وإقليمي ودولي قوي، كما أن حكومة الوفاق الوطني كانت هي الأخرى عرضة للهجوم والتجاذبات السياسية والعرقلة المتعمدة لمسار عملها، ولم تستطع تحقيق إنجازات تذكر، قياساً بالمهام التي كانت ملقاة على عاتقها.
وفي الحقيقة، لم يكن الشعب يعول كثيراً على حكومة الوفاق، ذلك أن الحكومة الانتقالية والرئيس الانتقالي كانت مهامهم محصورة على تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومتطلبات الانتقال السياسي، من هيكلة للجيش، ووضع دستور جديد للبلاد، والحوار الوطني، وتحسين الوضع المعيشي وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بالإضافة إلى تحقيق الأمن والاستقرار، وجميع هذه المهام لم يتم تحقيق الحد المقبول منها.
كان الإنجاز اللافت للرئيس هادي خلال فترة رئاسته قدرته على وضع معالجات حقيقية ومثمرة للقضية الجنوبية، وتمكنه من كبح جماح الحراك المطالب بالانفصال، بل فقد تمكن من استمالة بعض قيادات الحراك الجنوبي التي التفت حوله، حتى أن بعضهم أيد خطواته وأعلن الوقوف إلى جانبه، كما أن بعضهم أيد مخرجات الحوار الوطني الرامية إلى تقسيم البلاد إلى أقاليم فيدرالية، وهو التقسيم الذي أثار حفيظة بعض القوى، سواء الوحدوية أو تلك التي تنظر للجنوب على أنه مساحة للفيد والنهب، خشية أن يؤدي ذلك إلى تمزيق اليمن والتمهيد العملي لانفصال الجنوب.
لكن هذا الإنجاز تبخر مؤخراً بعد الإطاحة بالرئيس هادي، وأحيا النزعة الانفصالية لدى قطاع واسع من الجنوبيين جراء الخطوات الأخيرة التي أقدمت عليها ميليشيات الحوثيين، خاصة بعد محاصرتها للرئيس هادي ورئيس الحكومة خالد بحاح ووزير الدفاع اللواء محمود الصبيحي، وجميع هؤلاء من المحافظات الجنوبية.
أيضاً، نجح الرئيس هادي في الحرب التي شنها على تنظيم القاعدة فور تسلمه الرئاسة، حيث خاضت قوات الجيش معارك قوية مع تنظيم القاعدة الذي كان قد أحكم سيطرته على محافظة أبين، ونصب نفسه حاكماً لها، ويطبق الشريعة الإسلامية وفقاً لمفهومه وتصوراته.
كما أن الرئيس هادي تعامل مع أزمات البلاد المختلفة تعامل الطامع في البقاء في منصب الرئاسة لأطول فترة ممكنة، ويتجلى ذلك بوضوح عند التأمل في طريقة تعامله مع مختلف الأزمات الحساسة، فمسألة هيكلة الجيش، رغم أنها كانت شكلية، استهلكت الكثير من الوقت، ومؤتمر الحوار الوطني تم التمديد له لعدة أشهر، بعد أن تأخر عن موعده المحدد عدة أشهر أيضاً. ورغم أنه تم تمديد الفترة الانتقالية عاماً كاملاً، إلا أنه لم يتم حسم الكثير من الملفات، مثل وضع دستور جديد للبلاد، وتشكيل لجنة عليا للانتخابات، وتصحيح جداول الناخبين، والبدء بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه القوى السياسية الأخرى بصراع إعلامي وسياسي فيما بينها، استهلك كثيراً من طاقاتها، انشغل الرئيس هادي بالصراع التنظيمي مع سلفه صالح، وتمحور هذا الصراع على رئاسة حزب المؤتمر، كونها البوابة للعودة إلى منصب رئاسة البلاد، بالإضافة إلى الصراع على أموال الحزب، والسياسية التحريرية لوسائله الإعلامية، وتوج هذا الصراع بإغلاق قناة “اليمن اليوم”، التي يملكها أحمد علي، نجل صالح، لفترة مؤقتة.
* كيف أدار الرئيس هادي اليمن؟
تسلم عبدربه منصور هادي رئاسة اليمن بشكل مفاجئ، بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، حيث لم يكن مهيأ لهذا المنصب الرفيع، كما أنه لم يكن يتوقع بأنه سيصبح يوما ما رئيساً للبلاد في مرحلة من أخطر مراحل تاريخها المعاصر.
لم يكن الرئيس هادي يمتلك أي خبرات قيادية، ولذلك، أدار البلاد بنفس الأدوات والأساليب التي كان يستخدمها صالح من قبله، ولم يسعفه خياله لابتكار وسيلة جديدة لإدارة البلاد وحكمها، وتحقيق إنجازات تذكر، أو على الأقل العمل على تحقيق المهام المطلوبة خلال المرحلة الانتقالية وفقاً للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
كانت إدارة صالح للبلاد قائمة على العبث بالمال العام في شراء الولاءات، وزرع الفتن بين القوى الأخرى، سواء كانت مناهضة له أو متحالفة معه، وذلك من أجل إضعاف الجميع حتى يبقى في السلطة أطول فترة ممكنة ويتمتع وحده بالقوة، وليحصن نفسه ضد أي انقلاب عسكري أو ثورة شعبية تطيح به من السلطة.
ورغم أن علي صالح كان يلعب هذه اللعبة بخبث ودهاء، إلا أن عبدربه هادي لعبها بغباء منقطع النظير، والفرق بين الشخصين يكمن في أن علي صالح حافظ على مصادر قوة تحميه في الأوقات الحرجة، فيما عبدربه هادي لم يحافظ على أي مصدر من مصادر قوته، كما أنه لم يصنع لنفسه مصادر قوة جديدة يحتمي بها في وقت الشدة، وخسر حلفاءه الواحد تلو الآخر، وكان نتيجة ذلك أن وصل مسلحو الحوثي إلى بيته، ونهبوا بعض محتوياته، بحسب ما نقلته بعض وسائل الإعلام، وفرضوا عليه الإقامة الجبرية، رغم كل ما قدمه لهم من خدمات، لم ولن يحصلوا عليها من قبل أو بعد.
وضع الرئيس هادي اليوم يشبه وضع الملك أبو عبدالله محمد الثاني عشر، الملقب بـ”الغالب بالله”، آخر ملوك الأندلس المسلمين، وكان ملكاً على غرناطة (من بني نصر من ملوك الطوائف)، عندما استسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 يناير 1492، بعد فشله أمام قواتهما، وفي ذلك اليوم ألقى نظرته الأخيرة على غرناطة من مكان مازال معروفاً حتى اليوم باسم “زفرة العربي الأخيرة”، وبكى بكاءً شديداً، فقالت له أمه عائشة الحرة: “إبكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”.
كان هادي يحلم بالبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ومن أجل تحقيق ذلك، سلك سياسة فاشلة تتمثل بترحيل بعض الاستحقاقات المطلوبة، والتمديد للبعض الآخر، من أجل استهلاك الوقت، وفي نفس الوقت، سلك سياسة ساعدت على إشعال الحرائق، كي يشغل مختلف القوى بالصراعات فيما بينها، ولا تفكر بمسألة السلطة والانتخابات وغيرها.
تراكمت حالة السخط الشعبي ضد الرئيس هادي، كما أنه فقد كثيراً من حلفائه، بسبب انخراطه في المؤامرة ضدهم، وتسهيل دخول ميليشيات الحوثيين إلى محافظة عمران ثم العاصمة صنعاء وغيرها من المدن، وكان يعطي الأوامر للجيش -عبر وزير دفاعه- بأن يبقى على الحياد، ومؤخراً اكتشف أن الجيش نفذ أوامره بالحرف الواحد، وظل محايداً حتى عندما حاصر الحوثيون دار الرئاسة والقصر الرئاسي ثم بيت الرئيس نفسه، وقتلوا وجرحوا العشرات من أقربائه وأبناء منطقته الذين كانوا يحرسون منزله، وذكرت وسائل إعلامية أن هادي وجه أوامره لقوات الجيش المرابطة في صنعاء، وعلى رأسها قوات الاحتياط، بأن تتدخل، وتصد هجمات الحوثيين وعربدتهم، إلا أن قادة الجيش رفضوا ذلك، وقالوا له بأن الجيش سيبقى على الحياد.
وبخصوص جماعة الحوثي، فقد كان علي صالح يحاول استخدامها للقضاء على اللواء علي محسن الأحمر، كما أنه كان يحاول جر حزب الإصلاح إلى الحرب معها، بل وحاول الدفع ببعض أبناء الشيخ عبدالله الأحمر للحرب معها، وذلك من أجل أن يتخلص من الجميع.
سلك عبدربه هادي نفس طريقة علي صالح في التعامل مع القوى الأخرى، ولكن بشكل أكثر وقاحة، وساعده في ذلك المتغيرات الطارئة بفعل الثورة الشعبية السلمية، وإقدام صالح على نهب الكثير من أسلحة الحرس الجمهوري التي كان يقودها نجله أحمد، وتسليمها لميليشيات الحوثيين، ثم الهيكلة الشكلية للجيش، التي حولته إلى كيان أجوف غير قادر حتى على حماية نفسه، بسبب حالة الإحباط المنتشرة بين أفراده، وخيانة كبار قياداته للشرف العسكري، وارتباط البعض منهم بالقوى السياسية والقبلية المناهضة للثورة الشعبية السلمية التي اندلعت في فبراير 2011.
واللافت أن تحركات الحوثيين الأخيرة كانت مسنودة من قبل صالح وزمرته، للانتقام من خصومه السياسيين والقوى التي ساندت الثورة التي أطاحت به، وبما أن عبدربه هادي سلك نفس طرق علي صالح في إدارة البلاد، حتى ولو دخل جحر ضب لدخله بعده، فقد حشر نفسه وأخذ ينافس علي صالح في تقديم الخدمات لجماعة الحوثي، وإذا كان علي صالح يوجه المعسكرات الموالية له بأن تقف إلى جانب ميليشيات الحوثيين، فقد كان عبدربه يوجه بقية وحدات الجيش بأن تبقى على الحياد، وأن تسمح لجماعة الحوثيين بنهب ما تشاء من الأسلحة، وزاد على ذلك أن عين عددا كبيرا من الحوثيين في مناصب مدنية وعسكرية مهمة رغم أنهم بدون مؤهلات، وسمح لهم بالعربدة في المؤسسات الحكومية، ونهب الشركات التجارية والاستثمارية وبيوت الخصوم السياسيين، ونصب النقاط العسكرية في الشوارع واستفزاز المواطنين، وحشر أنفسهم في عمل جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية تحت لافتة الرقابة الشعبية.
* ماذا بعد الانقلاب؟
رغم أن الانقلاب على الرئيس هادي، والمغلف ببيان الاستقالة، قد أحدث فراغاً دستورياً وحكومياً هائلاً، كون الحكومة أيضاً قدمت استقالتها، إلا أن الخطورة تكمن في مرحلة ما بعد الانقلاب، إذ كيف سيتعاطى الحوثيون والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني مع الوضع الجديد، وإلى أي مسار ستتجه البلاد، خاصة في ظل السخط الشعبي الرافض للانقلاب.
لا شك أن الكرة الآن في ملعب الحوثيين وحليفهم صالح وزمرته، ذلك أنه على ضوء تعاطيهم مع الوضع الجديد سيتحدد مسار هذا الوضع، إما إلى مصالحة وطنية شاملة وسحب الميليشيات من المدن والاتفاق على إنهاء الوضع الشاذ الذي ترسخ بعد أحداث 21 سبتمبر الماضي، والتهيئة لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، أو دخول البلاد في دوامة جديدة من الأزمات والحروب الأهلية، وربما انفصال الجنوب، وانفصال بعض الأقاليم الأخرى، سواء انضمت إلى الجنوب أو شكلت دولة جديدة.
من مساوئ الأزمة الراهنة أنها جاءت في وقت تلاشت فيه الهوية الوطنية الجامعة لكل اليمنيين، وحلت محلها هويات جديدة متصارعة تستند إلى المنطقة أو القبيلة أو المذهب، وهذا الأمر من شأنه تسهيل عملية تشظي البلاد، خاصة وأن ميليشيات الحوثيين تتدثر بغطاء مذهبي ومناطقي وعقائدي، وتتصرف تصرف عصابات المافيا والسرقة والإجرام، وجمعت في تكوينها التنظيمي بين الجماعة الدينية المتطرفة والعصابة التي يستهويها النهب والسرقة بذرائع ومبررات شتى.
خلال الفترة الماضية، كان المحللون والمتابعون للشأن اليمني يرون أن جماعة الحوثي تسير وفقاً لخطط مدروسة وناجحة من أجل تحقيق أهدافها، وهي خطط تجمع بين العمل السياسي التفاوضي والمراوغ والعمل العسكري التوسعي على الأرض، لكن التطورات الأخيرة أثبتت أن الجماعة لم تكن تتمتع ببعد نظر، وأنها أخطأت في تقدير طبيعة المرحلة الراهنة، وأنها خسرت ما حققته من مكاسب خلال أشهر قليلة في لحظة واحدة.
لم تكن جماعة الحوثي تتصور أنها بجشعها ومطالبها المتزايدة الرامية إلى تغلغلها في مفاصل الدولة المختلفة قد تصل بالأوضاع إلى ما وصلت إليه، فكل ما كانت تتوقعه هو أن يرضخ الرئيس هادي لجميع مطالبها، وتحويله إلى مظلة لتصرفاتها، والتغلغل في مرافق الدولة المختلفة، وفرض شروط ومطالب جديدة تتضمن تعيين أعضائها في مناصب مهمة وحساسة، مثل منصب نائب الرئيس، ونائب مدير مكتب الرئيس، ونواب وزراء في الوزارات السيادية والمهمة، وهيئات للرقابة والتفتيش في جميع الوزارات والمرافق الحكومية، بالإضافة إلى العديد من المناصب المدنية والعسكرية الأخرى.
وفي الواقع، يمكن القول إن ما حدث جاء في التوقيت الملائم، سواء كان انقلاباً أم استقالة، أو انقلاباً مغلفاً بالاستقالة، فمن ناحية، ذهب عبدربه هادي غير مأسوف عليه من قبل الشعب، بسبب سياساته الفاشلة التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع، ومن ناحية ثانية، فإن تصرف الرئيس هادي جاء كرد فعل على “عربدة” جماعة الحوثي، ومن هنا كان التعاطف الشعبي المحدود مع هادي.
ستكتشف جماعة الحوثي أن سنوات حكم الرئيس هادي الثلاث كانت أزهى مراحل تاريخها، فخلال هذه الفترة حققت مكاسب سياسية وعسكرية لم تحلم بها أي جماعة مسلحة وإرهابية لا تحظى بقبول اجتماعي أو قبول لدى المجتمع الدولي، لكن هذه المكاسب ستتبخر بعد الانقلاب، خاصة وأن الجماعة باتت معروفة لدى الأوساط الشعبية والسياسية أنها عبارة عن عصابة تبحث عن الفيد والمغانم والأموال، تنهب المعسكرات والشركات التجارية والدولة وتريد مناصب لأعضائها غير المؤهلين، وتتعامل مع مفهوم الدولة بعقلية حكام القرون القديمة والوسطى المظلمة، حيث كان الحكام يفرضون الضرائب والإتاوات على المواطنين دون أن يقدموا لهم أي خدمات أو حماية.
خلال الفترة الماضية، اتخذ الحوثيون من الرئيس هادي مظلة لتحركاتهم الشاذة والمنافية للدستور والقانون ومطالب الثورة الشعبية السلمية التي اندلعت في فبراير 2011، وبعد الانقلاب، فقد الحوثيون هذه المظلة، وأصبحوا الآن مكشوفين أمام الشعب، ومن هنا ستكون المواجهة المباشرة مع الشعب، خاصة وأن المؤشرات الأولية تؤكد أن غالبية قطاعات الشعب لن تقبل بجماعة الحوثي حاكماً منفرداً بشؤون الدولة، فهناك حالة رفض متراكمة، وهناك سخط شعبي عارم تأجج مؤخراً بعد الإطاحة بالرئيس هادي وحكومة بحاح معاً، وحالة الرفض والسخط هذه تراكمت بسبب التحركات الحوثية التي تسلك مسلك عصابات السرقة، زاد من بشاعتها أنها مغلفة بتحركات قائمة على الطائفية والهوية المذهبية البغيضة، وتتمدد في الفضاء الاجتماعي والعسكري الموالي للرئيس صالح، الذي امتطى الحوثيين لينتقم من خلالهم من جميع خصومه السياسيين الذين دعموا وساندوا الثورة الشعبية السلمية التي أطاحت به، كما استفاد الحوثيون من هذا الدعم ليرسخوا نفوذهم السياسي والاجتماعي، على الأقل في المناطق التي وجدوا فيها حاضنة اجتماعية.
لا شك أن المرحلة الحالية صعبة وحساسة، ولا شك أن الكرة أصبحت الآن في مرمى على صالح والحوثيين، وما لم تبادر الأحزاب السياسية وشباب ثورة فبراير 2011 للنزول إلى الساحات واستعادة وهج الثورة وقطع الطريق على جماعات العنف والإرهاب وعصابات النهب والسرقة، فإن الفراغ الحالي سيكون من نصيب صالح والحوثيين على الأقل لفترة مؤقتة، وعلى ضوء هذه الفترة وما سيرافقها من تطورات، يمكن التنبؤ بمآلات الأوضاع وإلى أين ستتجه، وهي لن تخرج عن نطاق الثلاثة الاحتمالات التالية:
الأول، تدخل وسطاء دوليين، بمن فيهم إيران، لوضع خارطة طريق جديدة وإجراء مصالحة وطنية شاملة، يمكن التأسيس عليها لمستقبل خالٍ من الصراعات والحروب الأهلية، أو أن يبادر اليمنيون من تلقاء أنفسهم إلى إجراء هذه المصالحة دون الحاجة إلى وسطاء دوليين.
الثاني، أن تُحكِم جماعة الحوثيين وعلي صالح قبضتهم على السلطة، وأمر كهذا سيدفع إلى نشوء تكتلات شعبية مناوئة، وقد يعلن الجنوب الانفصال بشكل عملي، وقد تتمرد بعض المحافظات، وهذا سيدفع علي صالح والحوثيين للمواجهة العسكرية من أجل الثروات النفطية في محافظات حضرموت وشبوة ومأرب، ومن هنا ستشتعل ثورة شعبية مسلحة تطيح بالطرفين، وبعدها ستبدأ اليمن مرحلة جديدة من تاريخها بعد رحيل محور الشر.
الثالث، إجراء مصالحة هشة، من شأنها تهدئة الغضب الشعبي بشكل مؤقت، في وقت سيحكم فيه علي صالح والحوثيون قبضتهم على السلطة، وستنشأ بينهم خلافات على بعض المناصب، وستبدأ مرحلة جديدة من الصراع فيما بينهم تفضي إلى حرب قوية تضعف الطرفين، وسيترتب على ذلك ظهور طرف ثالث قوي يخلط الأوراق ويعيد صياغة المشهد السياسي من جديد.
كما لا يمكن إغفال العامل الإقليمي والدولي في توجيه مسار الأحداث، فالولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع الأمر الواقع ولا يهمها أن تتدخل وتجري تغييرات جوهرية، فكل ما يهمها هو الحرب على الإرهاب، وهي بذلك لا تمانع من التحالف مع جماعة الحوثي وربما دعمها من أجل مكافحة ما تسميه الإرهاب. أما إيران ودول الخليج، فكل طرف منها ينظر لليمن باعتبارها ساحة نفوذ في صراعه مع الطرف الآخر، ولذلك فكلا الطرفين لا يمانعان أن تجري حرب بينهما في اليمن بالوكالة، حتى وإن اقتضى ذلك دعم أحدهما لانفصال الجنوب، وأيضاً دعم انفصال الأقاليم الأخرى الراغبة في الانفصال.