اخبار الساعة

وزارة الخارجية نفقت في زمن طاعون الإهمال

اخبار الساعة - مصطفى الجبزي بتاريخ: 20-12-2011 | 13 سنوات مضت القراءات : (3870) قراءة

تنتصب وزارة الخارجية في الجهة الغربية من العاصمة صنعاء راقدة عند إقدام جبال عصر. إنها مبنى من ادوار ثمانية في بلد يستورد كل شيء من الصين حتى شكل مبنى هذه الوزارة، ممددة إلى جوار خزان ماء أشبه بفزاعة المآل، تتمدد كماعز أغبر منفوخ البطن نفق من يوم أو يومين. نفقت هذه الوزارة/المعزة في زمن طاعون الإهمال. في بعض سنين لا يعرف لها البداية لكنها محددة الأثر. فمن ينفخ فيها روح الحياة؟ نفقت كماعز تركها الراعي مربوطة تستظل إلى جذع يابس ونسيها أو تناسها فماتت من الجوع والعطش.

أكتب هذه الأسطر سعياً مني في توضح الصورة الغائمة عن موظفي الخارجية أملاً في تقديم الحد الأدنى عن الأحوال والمصاعب التي ينبغي على الوزير الحالي عينه فيما لو رفضت يرقته عن التحول إلى فراشة) أن يتعامل معها ويواجهها بجدية مسؤولة.

يدور هذه الأيام حوار ساخن على صفحة في الفيسبوك باسم موظفي وزارة الخارجية اليمنية. ويعترك في طيات هذه الصفحة مزيج مشاعر من الغضب والحسرة والتمني والشكوى، وتنضح المشاركات بمرارة الصابرين على تبعات هذا الإهمال وعناء تحمل التخثر الذي أصاب دماء هذه الوزارة السيادية (افتراضاً) بعد أن مضت سنوات من الافتكاك والتمزيق لجسدها. لكن ما يلفت الانتباه في بعض الحوارات هو الحقائق البشعة.

فوزيرها الموقر بحسب بعض الكتابات يستكثر على الموظفين رواتبهم لأنهم لا يستحقونها سيما وهم لا يعملون. تقول هذه الصفحة أن الوزير يرى أنه الوحيد الأوحد الذي يعمل. بل انه يجد في وظائف هذه الوزارة –خصوصاً في البعثات الخارج - شكلاً من أشكال الفساد الذي ينبغي مكافحته، ناهيك عن أن الوزير لم يقف مكتوف اليدين تجاه هذا الفساد فبدأ بتقليص هذه الوظائف والابتعاث إلى الخارج، وبقوة خارقة لملم الوزير هذه الوزارة كأسمال لاجئة شائخة في حقيبة يدٍ وراح يتجول ويتنقل بها في أصقاع الأرض ثم جاء ليعيب على الوزارة أنها لا تعمل. اكتفى بمكتب فيه بعض أعوان وألغى وظائف الجميع ليكون هو الوحيد على المنصة يقدم عرضه بلا كلل ولا ملل؛ "وان مان شو"، هذه هي الاستراتيجية والعقلية السائدة في التعامل مع الوزارة.

2
أما عن الرواتب فهي لا تحتمل الذكر. لكنها قصة شائقة بالفعل. سأقص عليكم نبأها متخذا من حالتي انموذجا تجسيدياً. قبل أن أجيء إلى هذه الوزارة وأتقدم لخوض سلسلة امتحانات كنت اعمل كمترجم ومعلم في أماكن عدة واقبض راتبا شهريا يقارب الألف دولار أو يزيد، حينها لم يكن لدي أطفال بعدُ ولم يك إيجار البيت يزيد عن 22 ألف ريال ولم تصل حينها فاتورة الماء أو الكهرباء إلى 1300 ريال.

والآن بعد أن التحقت بهذه الوزارة الموقرة بت استلم في بداية الأمر اقل من 35 ألف ريال ووصلت إلى 39500 ريال بعد كل الإضافات علما بأن الإيجار وصل إلى 40 ألف ريال وادفع فاتورة ماء تراوح 4500 ريال ومثلها للكهرباء ناهيكم عن الاتصالات. بل كيف لي أن أتحدث عن ضرورة الوصول إلى الوزارة ببدلة وربطة عنق وهندام يليق بدبلوماسي. وصار لدي طفلان ومصاريف بيت والتزامات دبلوماسي أمام أبي والناس والخلق أجمعين. لقد جعلتنا الوزارة في طاعون الإهمال اقل من عاجيات (مانكين) لعرض الملابس في الفترينات وكأننا لا نأكل ولا نشرب وليس علينا أدنى مسؤولية عائلية واجتماعية. قدِمنا إليها نحمل مؤهلات ومعارف اكتسبناها مع السنين بشق الأنفس لننفع بها أنفسنا وذوينا والوطن، فأصبحنا كالنمل الأبيض ندب وراء حبيبات القمح وفتات ريالات الوزارة. قبل أن التحق بالوزارة منذ ثلاث سنوات جئت احمل شهادة ماجستير منذ 2004 ودبلوما عاليا في علوم الاجتماع ولغة فرنسية وقليل من الانجليزي وها أنا انتهي بدبلوم عال من أرفع كليات الادارة العامة في أوروبا ولم أحظ بأدنى اهتمام بل إني لم اعمل على معادلة شهاداتي عندما علمت أن الزيادة المبتغاة من هذه الشهادات هي 800 ريال لا أكثر.

أجدني وكثير من زملائي عاطلين عن كل شيء في زمن طاعون الإهمال هذا: عاطلين عن المال والعمل والقيمة والمعرفة. لكننا نغص ونفيض بالهموم والشكاوى. بعض من نعرفهم ممن ولجوا السلك العسكري كجنود بلا أي شهادة تعلو على شهادة ثالث إعداي في أحسن الأحوال باتوا يقبضون رواتب أكثر من رواتبنا. أما زملاؤنا ممن أصبحوا ضباطاً في الجيش أو الأمن يفاخرون ويزايدون بمعيشتهم عنا وما يملكون من ترف الحياة. صحيح قد لا يملكون الكثير لكننا أصبحنا موضع المثل في العوز.  الخارجية... وزارة نفقت في زمن طاعون الإهمال 3
لقد زحف الإهمال إلى الوزارة على نحو حثيث فبعد أن كانت تزخر بدوائر متخصصة ولها من الوكلاء السياسيين قرابة أربعة أصبحت بوزير وحيد أوحد. وبدل من المؤتمرات والنشاط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والتعاون الدولي والابتعاث في التاهيل والتدريب على نفقة الوزارة ومن خلال الحفاظ على إباء وكرامة الموظف المبتعث، باتت تعيش هذه الوزارة على سؤر صدقات ومعونات الدول الشقيقة والصديقة وتحولت مهامها إلى ساع للبريد يتلوى في الأزقة والمنعطفات. وحدها حقيبة الوزير هي التي تفكر وتخطط وتقرر. أما الوزارة فقد تفرقت دماؤها بين القبائل من وزارات أخرى وأجهزة تشريعية وتنفيذية واستشارية أيضا. لقد نجح الوزير الطبيب في استنساخ نعجات كثيرات من المعزة الأم ووزعها بكرم من لا يبالي أو من لا يملك على الجهات الأخرى، المهم انه احتفظ بالحقيبة. واحد من المصالح التابعة لوزارة الداخلية تمارس سياسة خارجية أكثر من وزارتنا: ولديها أنشطة خارجية متنوعة من مشاركات، سفريات، دورات تأهيلية، مؤتمرات ندوات... إلخ. أما نحن فنكتفي برفع مذكراتنا إلى الرئاسة ورئاسة الوزراء ووزارة الإعلام ووزارة حقوق الإنسان وأحيانا محافظ لحج أو مكتب التربية في المهرة.
سفرائنا في الخارج لم يعدوا يبعثون بأعمالهم إلينا، أحيانا تصلنا منهم نسخة مع التحية. في الوزارة دوائر متشعبة فارغة من كل شيء مهم عدا من بعض الطاولات والكراسي. مكتبة الوزارة تتثاءب كسلاً وتتضور للكتب والموسوعات. هناك دائرة قانونية لم تعد تهتم سوى كيف تكيِّف القرارات لتتناسب مع المزاج المرحلي. دائرة الحدود لم تعد تتذكر تاريخ آخر مذكرة وردت إليها أو متى نزلت في مهمة عمل لتعاود الحدود. أشك كثيراُ في أنها تمتلك خرائط عن الوطن.
في مثل هذه الظروف لم يعد في بال موظف وزارة الخارجية سوى متى سيستلم سلفة من الجمعية (طالما وقد أُوكل شأنه لجمعية خيرية وليس له ضمان صحي أو تأمين أو ما يكفل حقه كموظف حكومة في وزارة سيادية هي واجهة البلد ومفتاحه على العالم) أو متى سيكون موعد التعيين والخروج. هذه الجنة الموعودة وحلم الآباء والأجداد وأرض الميعاد. ثم ليس إلا أضغاث أحلام. لقد توافقت قيادة الوزارة في أن تتعامل مع شؤون الوزارة وحقوق موظفيها مع العقلية المنتقمة والمتحاملة التي يتفضل بها موظفوا وزارة المالية او وزارة الخدمة المدنية. فقلصت الميزانية وأعداد مقاعد الابتعاث ولم توافق على اعتماد الكادر الدبلوماسي الذي فيه تعليمات وأوامر واضحة. كما لم توافق على رفع الرواتب والاعتمادات للموظفين في الخارج. الشيء الأسهل اعتماده هو التقليص والتنكيل ليس إلا.
ربما كان المبرر وراء ذلك هو الفساد أو طبيعة الميزانية وخطط التقشف لكن مهما كانت تنويعات السبب، فالفساد لا يأتي من كل موظفي الوزارة والجهة الوحيدة القادرة على ممارسته هي الجهة المالية وبالتالي ما الداعي لتعميم العقوبة على الجهة غير المذنبة. ثم أن سفاراتنا في الخارج تغص بعاملين؛ إما محليين في مخالفة للوائح العمل أو بعاملين لا يتبعون وزارة الخارجية نهائيا وهم أحيانا يمثلون أربعة أخماس الطواقم العاملة والبعثات في السفارة الواحدة مقارنة بطاقم الخارجية. لا ننسى أن غالبية السفراء يأتون من خارج الوزارة ومن خارج السلك الدبلوماسي بالمرة مع أن هناك نسبة معينة معقولة تحددها اللوائح في هذا الجانب.
4
نحصل على جوازات حمراء ونحن لا نريد، لأنها أشبه بلعنة تحل علينا بينما نجدها في متناول القاصي والداني. في الخارج نسافر (لنحوِّش) قرشين يبيضون الوجه في سنوات العودة العجاف. لذا كيف سيكون لنا أن نهتم بأعمالنا ونؤديها في أجواء وظروف كلها تنافسية وفخامة؟
فالدبلوماسي اليمني هو اقل نظراءه دخلاً من العرب والعجم حتى من اخواننا في الصومال الذين لم تتحدد بعد ملامح دولتهم ومقدراتها.
لا استغرب البتة لماذا ينغمس البعض في الخارج في ملذات بسيطة تنسيه سنوات حرمان انتظار التعيين في الخارج. ثم ماذا نعمل هناك ونحن ضمن وزارة أصابها التخثر وتلاشت معنوياً ومادياً. في الداخل لا يملك المختص ما يؤثث به ملفه من معلومات وتقارير ودراسات. لا يستطيع متابعة منحنى علاقتنا بلدنا بأي بلد سواء في التعاون او التعزيز او الانحدار في العلاقة. وفي الخارج يعمل الواحد منا تحت سطوة عقلية الـ وان مان شو، ربما نسخة مصغرة لكنها ذات العقلية.

اقرأ ايضا: