اخبار الساعة - د.طارق الحروي
- على خلفية ما أصاب السياسة الأمريكية من حالات شلل شبه حادة ناتجة عما تعرضت له من استنزاف حاد ومن ثم هزيمة ساحقة في فيتنام توجت بالانسحاب الأمريكي منها عام 1974م، نتج عنها انسحاب شبه كلي نسبيا من مناطق التوتر في العالم والمنطقة العربية خاصة بالتنسيق والتعاون مع الخصم السوفيتي- وفقا- لما كانت تقتضيه مصالحهما الحيوية العليا، بحيث لم يتسنى لهما الرجوع إلى المنطقة إلا في نهاية العام 1977م، في ضوء استمرار تنامي حالات الانفلات الخطيرة الحاصلة في المنطقة الذي حققته أنظمة وطنية بعينها شكل العراق محورا أساسيا لها، والتي هددت إلى حد كبير- في المحصلة النهائية- باحتمالية خروج أجزاء كبيرة ومهمة من المنطقة عن نطاق حدود القبضة الأمريكية- السوفيتية، وهو الأمر الذي استدعى منهما ضرورة تدارك ما يمكن تداركه؛ من خلال الإسراع باستئناف سياساتهما الدولية مهما كانت التضحيات اللازمة، في ضوء أهمية بل حيوية وحساسة المصالح الرأسمالية والشيوعية فيها.
- أما فحوى السؤال الأساسي الذي فرض نفسه علينا بقوة عند هذا الحد من التحليل هو ما طبيعة ومستوى ومن ثم حجم العلاقة التي تربط بين التطورات الرئيسة التي شهدتها البيئة الداخلية في شقها السياسي- الأمني في الفترة (1977- 1978م) (ومن ثم العسكري عام 1979م) والتطورات الدولية والإقليمية التي أشرنا إليها- آنفا ؟ .
- مما تجدر الإشارة إليه بهذا الشأن أن العام1977م، قد مثل- بحسب وجهة نظري- نقطة التحول الجذرية في حالة النكوص واللا مبالاة المفتعلة التي أصبحت عليها كلا من السياستين الأمريكية والسوفيتية، في إعلان دولي رسمي عن عودة سريعة ومفاجئة للمنطقة إلى أحضان التنافس الدولي وأجواء حربا باردة جديدة- كما- يحلو للكثيرين ترديدها طوال الوقت، لكن- وفقا- لمعايير جديدة من الشراكة والتعاون والتنسيق عالي المستوى، فبالرغم من أن السوفيت كان هو من بدئها بشكل مباشر، إلا أن الأمريكان كانوا حاضرين بشكل غير مباشر، في ضوء ما تشير إليه معظم الدلائل التاريخية من دلالات ومعاني وإشارات بالغة الأهمية بهذا الشأن لماذا ؟
- جراء ما شهدته معظم دول المنطقة من جنوح حاد ومن ثم من ضربات متتالية منتظمة وسريعة، أدت إلى تساقط شبه منظم وسريع للأجنحة الوطنية المعتدلة سواء الموالية أو القريبة من الحليف الصيني كأحجار الدومينو وورق الخريف ضمن إطار سيناريو معد مسبقا لمثل هذا الغرض على أعلى المستويات القيادية في العالم وفي هذا التوقيت تحديدا لصالح الأجنحة المتطرفة الموالية للطرف السوفيتي والأمريكي، ممهدة الطريق واسعا لعودتهما بقوة إلى المنطقة ضمن أطر إستراتيجية معدة سلفا أصطلح على تسميتها ابتداء بمبدأ كارتر (1977- 1978م)، ومرورا بمبدأ بريجنيف عام 1979م، وانتهاء بمبدأ ريجان عام 1980م.
- أما كيف حصل ذلك، فنرد بالقول ابتداء من حسم الصراع الداخلي على كرسي السلطة في أثيوبيا المستعرة فصوله منذ العام 1974م لصالح الجناح المتطرف الموالي السوفيت عام (1976-1977م)، وحصول السوفيت على مواطئ قدم مهمة فيها بالتنسيق والشراكة مع الأمريكان، في اتجاه التمهيد لسحق التطلعات القومية للصومال، وهو ما حدث بالفعل عندما تخلى السوفيت كليا عن الحليف الصومالي ومضحيا بكل مصالحه الحيوية معه، راميا بكل ثقله الاستراتيجي مع الحليف الأثيوبي الجديد، من خلال الهزيمة العسكرية الساحقة التي منيت بها الصومال في حرب أوجا دين الثانية عام (1977-1978م) والثالثة عام1981م.
- ومرورا باستعادة السوفيت لنفوذه الاستراتيجي في اليمن الجنوبي عام 1978م، في ضوء ما حققه من نجاحات نسبية في إزاحة الجناح المعتدل الذي يقف على رأسه الرئيس الشهيد سالم ربيع علي من على سدة السلطة وصعود الجناح المتطرف الموالي له بقيادة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل كمرحلة أولية في أعقاب إعدام الرئيس سالم ربيع علي المدان بعملية الاغتيال المدبرة لأخيه الرئيس أحمد حسين الغشمي، ثم انتقالها إلى الرئيس على ناصر محمد عام 1980م كمرحلة ثانية- وفقا- للسيناريو المعد لذلك، وصولا إلى نجاحها الساحق في إشعال شرارة الحرب الدموية الحدودية اليمنية- اليمنية في يناير 1979م، التي استطاعت من خلالها تصفية معظم قيادات وعناصر الأجنحة الوطنية المعتدلة في كلا الشطرين بضربة واحدة.
- وانتهاء بالدور الذي لعبه السوفيت في إزاحة كلا من الرئيس إبراهيم ألحمدي عام 1977م وأحمد الغشمي عام 1978م اللذان ينتميان إلى قبائل بكيل التي كانت تمثل رمزا للقوى التحديثية والتحررية، والمساهمة في انتقال مقاليد السلطة إلى الرئيس على عبدالله صالح المحسوب على طرفي الصراع كجسر عبور مؤقت جدا ليس إلا، وهذا ما سوف يتم تناوله في مقالات لا حقة، فرضته المعطيات الظرفية الداخلية والخارجية آنذاك، تمهيدا لانتقالها المباشر والسريع إلى مرشح قبائل حاشد الأبرز "على محسن الأحمر" التي كانت تمثل رمزا للقوى التقليدية المحافظة والمتطرفة المحلية والإقليمية، واستنادا لهذا السياق من التحليل اعتقد أن الصورة بخطوطها الرئيسة والعامة قد أصبحت واضحة تماما أمامنا، وهو ما سنحاول التطرق إليه بشيء من التفصيل لاحقا.
- ومن هذا المنطلق نستطيع القول أن القوى الإقليمية التقليدية المحافظة والمتطرفة واليسارية المتطرفة بامتداداتها المحلية والإقليمية والدولية كـ(السعودية، مصر، اليمن الجنوبي، إسرائيل، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، بريطانيا،....) على سبيل المثال قد أدركت أن ناقوس الخطر المحدق بمصالحها الحيوية في عموم المنطقة ومنها اليمن قد دق بقوة منذرا بضرورة العمل الجاد على إيقاف التحولات المتوقعة التي يسعى ورائها الرئيس إبراهيم ألحمدي وخيرة معاونيه، وبإسناد كامل من قبل العناصر والقوى التحديثية والتحررية الجديدة، سيما تلك الملفات الأربعة المتعلقة برص وتوحيد الصفوف الداخلية والإقليمية الذي استعدت له بصورة شبه كلية نسبيا، أما كيف تم ذلك ؟
- فإننا نرد ذلك بالقول من خلال إعادة بلورة بعض أهم معالمه الرئيسة في اتجاهين رئيسين متلازمين، الاتجاه الأول ذهب إلى التركيز كثيرا على تقنية تصفية قيادات ورموز المشروع الوطني النهضوي ألتغييري التي بدأت تتلمس طريقها بوضوح منقطع النظير تحت قيادة ورعاية الرئيس إبراهيم ألحمدي وبعض رفاقه واضعة يدها على أهم خطوطه الرئيسة المؤدية نحو الغاية المنشودة بمراعاة عامل الزمن والسرعة والكلفة في تراجيديا مذهلة؛ من خلال العمل الجاد والمتواصل بصمت وإتقان على مرحلتين رئيستين متعاقبتين.
- تركز الأولي على تقنية التصفيات الجسدية الفردية غير المعلنة لأهم عناصر القيادة السياسية والعسكرية والأمنية العليا صاحبة التأثير داخل الدولة بضربة واحدة وفي توقيت واحد، وهو ما حدث بالفعل عندما نجحت نجاحا منقطع النظير قي التخلص من الرئيس إبراهيم ألحمدي وبعض أهم رفاقه دفعة واحدة في ظروف غامضة وشائكة، وتعتيم داخلي وخارجي يثير الكثير من علامات الاستفهام والغموض، لدرجة أن الشعب اليمني وقواه الوطنية والتيار الوطني المعتدل في الحركة الناصرية خاصة لم تفق سريعا من هول الصدمة وقوتها، سيما أن الرئيس أحمد الغشمي بدأ بممارسة مهامه الوطنية اليومية سريعا وبإسناد كامل من رفاق سلفه الراحل والقوى الوطنية، بصورة لم تتيح مجالا واسعا لأية ردود أفعال مؤثرة- في هذا الشأن.
- والمرحلة الثانية تقوم على تقنية التصفية الجسدية الجماعية المعلنة للقيادة التاريخية للحركة الناصرية ولمن تبقى من العناصر القيادية الرسمية (العليا، الوسطى،...) المؤثرة والمهمة في السلك العسكري والأمني ومن ثم السياسي والحزبي- من جانب- وتقنية عمليات الإحلال الجماعية الواسعة، باعتبارها الوسيلة الأمثل لإزاحتها عن مواقعها الرسمية المؤثرة باستبدالها بالعناصر الموالية؛ من خلال سلسلة واسعة من (التنقلات والاستقالات والتنازلات، التهميش، المطاردات، الإلغاء، الاعتقالات،...)- من جانب أخر.
- سواء في ضوء ما تمثله من نقاط ارتكاز رئيسة لضمان بقاء واستمرار المشروع الوطني للدولة المدنية الحديثة- وفقا- لمعايير المصلحة الوطنية العليا كما مخطط له، بالرغم مما مثلته عملية التخلص من الرئيس إبراهيم ألحمدي ورفاقه من كارثة وطنية حقيقة في هذا الأمر، على خلفية ما تواجهه القوى الانقلابية من صعوبة حقيقية من الاقتراب منها وإزاحتها ومن ثم تصفيتها من مواقعها المؤثرة لأسباب غير منطقية، في ضوء ما تمتلكه من إمكانات مادية وسياسية وشعبية.
- أو في ضوء ما تشكله هذه الحلقة من أهمية قصوى لاستكمال حلقات المخطط والبدء بقطف ثماره الرئيسة من عدمه، سيما أن ملف اغتيال الرئيس إبراهيم ألحمدي ورفاقه كان ما زال مفتوحا على مصراعيه، في ضوء بروز تيار داخلي قوي يطالب بضرورة الكشف عن المخطط الانقلابي كاملا ومعاقبة كل المتورطين والمتواطئين فيه، وهو ما حدث بالفعل في أعقاب الانقلاب الأسود الذي قادته الحركة الناصرية بالتعاون والتنسيق والشراكة الكاملة مع القوى التقليدية الظلامية بشقها المحافظ والمتطرف واليساري ضد شخص الرئيس الصالح أكثر منه نظامه بتاريخ 15/10/1978م، تحت مسمى حركة 15 أكتوبر، وما تلاها من تطورات رئيسة- في هذا الشأن وهذا ما سأحاول توضيحه في مقال لاحق.
والله ولي التوفيق
([1]) باحث في العلاقات الدولية والشئون الاستراتيجية وكاتب ومحلل سياسي.
- يئة الخارجية منذ مطلع عقد السبعينيات والناتجة عن حالة الوفاق الدولي الاستثنائية التي شابت العلاقة على محور واشنطن- موسكو منذ مطلع عقد السبعينيات.
المصدر : الكاتب