"أنا أحيي العاصمة صنعاء على هذا الصمود الرائع، والتعاون لتثبيت أمن العاصمة، تثبيت أمن العاصمة مش بقوة الشرطة، بل بقوة سكان العاصمة، هم الذين ثبتوا الأمن والاستقرار، هذا المواطن هو الذي مثبت الأمن في صنعاء"، بهذه الكلمات، يبدو الرئيس السابق علي عبدالله صالح، كما لو أراد إخبارنا، الخميس الماضي، أن زمام "اللجان الشعبية" التي تتولى مهمة تأمين صنعاء منذ 21 سبتمبر، ليس في يد الحوثي، كما نتصور، بل في يده. ماذا كان بإمكانه أن يقول أكثر من هذا ولم يقله؟ لم يتبقَّ أمامه سوى أن يقولها صراحة: اطمئنوا.. العاصمة صنعاء في يدي لا في يد الحوثي!
لكنه لا يحتاج لقولها صراحةً، فقد قالها ضمنياً، وبنبرة أقل ما يمكننا وصفها به أنها "نبرة متحدث واثق جداً مما يقول".
لطالما اتهمه خصومه بالتحالف مع الحوثيين، والتنسيق معهم خلال الصراعات المسلحة التي خاضوها ضد خصومهم وخصومه المشتركين، ولطالما لاقت هذه التهمة نفياً ورفضاً من قبله وقبل حزبه. لكنْ، وابتداءً من حرب عمران التي أطاحت ببيت الأحمر وحلفائهم، بدأ الحديث عن دور كبير له في "الانتصارات المتلاحقة" التي أحرزها الحوثي، وهو الدور الذي أخذ يتضح أكثر فأكثر خلال الاعتصامات الاحتجاجية ضد الجرعة داخل صنعاء، حيث حضر المؤتمر بوضوح وقوة، إلى جانب الحوثيين، كما حضر في "الاعتصامات" المسلحة التي ضربت طوقاً حول العاصمة، ذكّر كثيراً بـ"حصار صنعاء" في الستينيات. ومنذ اقتحام ميليشيات الحوثي للعاصمة، في 21 سبتمبر، أصبح من غير الممكن تجاهل أصابع صالح في "انتصار الحوثي" السريع والقياسي، الذي أسقط العاصمة في يده في غضون ساعات، وهو ما حيَّر كثيرين، ربما كان في مقدمتهم الحوثيون أنفسهم.
في 20 سبتمبر، وبينما كانت المعارك في صنعاء على أشدها، كتب صالح على صفحته في "فيسبوك": "أدعو الأطراف المتصارعة إلى وقف فوري لإطلاق النار بأمانة العاصمة وضواحيها، باعتبار صنعاء عاصمة دولة الوحدة اليمنية، ويعيش ويتعايش فيها كافة أبناء الشعب اليمني قاطبة، من المهرة الى الحديدة، ومن سقطرى الى صعدة".
حاول صالح في دعوته هذه، التظاهر بأنه ليس طرفاً في الصراع، لكن ما يود اللسان إخفاءه تظهره الأحداث. ففي اليوم التالي، يوم انتصار الحوثيين، وسيطرتهم على صنعاء، اقتحم مسلحون محسوبون عليهم منزل القيادي الإصلاحي محمد قحطان، ودخلوا غرفة نومه، ثم جلسوا على سريره، والتقطوا لأنفسهم صورة تذكارية لم تذكِّر بشيء قدر ما ذكَّرت بـ"التهديد الشهير" والمسيء الذي لوّح به قحطان في وجه صالح، إثر مجزرة جمعة الكرامة عام 2011، مهدداً بالدخول الى "غرفة نومه"، ما لم يتنحَّ عن السلطة. وحين شاهدت صورة المسلحين "الحوثيين" في غرفة قحطان، كانت أول عبارة تبادرت الى ذهني: قحطان هدَّد، وصالح نفّذ!
لكنْ، وبالرغم من هذه الإشارة الواضحة لحضور صالح في الصراع الذي انتهى باقتحام الحوثيين للعاصمة، وسيطرتهم عليها، كان من الصعب تحديد مستوى هذا الحضور، ومدى قوته. فالميليشيات التي خاضت الصراع، ترفع "شعار الحوثي"، وكذلك اللجان الشعبية التي سيطرت على العاصمة، ترفع "الشعار" نفسه. غير أن صالح لم يبخل علينا بالمزيد من الإشارات التي تؤكد دوره في كل ما حدث.
في 28 سبتمبر، وبعد أسبوع تقريباً من سيطرة الحوثي على صنعاء، وفرار علي محسن الى السعودية، نشر صالح على صفحته "قصيدة"، قال إنها خطرت له في 12 أغسطس 2011، بينما كان على سرير المرض بالرياض، يتلقى العلاج من آثار محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفته وأركان نظامه، في 3 يونيو 2011.
"استقضيت"، كان هذا تقريباً ما أراد قوله في قصيدته التي حملت عنوان "القضاء مثل السلف"، والتي أشارت بوضوح إلى المتهمين لديه بمحاولة اغتياله:
"يا علي محسن وصادق وهاشم ** يا حميد، يا أهل تلك العجينه
قد تلحمتوا أمام العوالم ** بالخداع والغدر لحمة سمينه".
هكذا، بدأ صالح قصيدته التي حملت إشارات واضحة إلى دوره في ما لحق بعلي محسن وبيت الأحمر من هزائم انتهت بفرارهم من البلاد. لكنْ، وبينما انشغل كثيرون في الحديث عن "شعرية القصيدة" و"شاعرية صالح"، لم ينتبهوا لأهم ما حملته تلك القصيدة المنشورة في وقت مهم وحساس: إنها الرسالة السياسية التي تضمنت ما يقترب كثيراً من "الاعتراف" بدوره في ما حدث!
لم يعد دور صالح والمؤتمر في حروب وانتصارات الحوثي الأخيرة، والمحيِّرة، سراً خفياً: فالحديث عنه دائر منذ وقت، والتساؤلات والتكهنات بخصوصه كثيرة، وفوق هذا وذاك، فإن الواقع مليء بالمؤشرات والشواهد عليه. لكننا وضعنا كل هذا جانباً، واكتفينا ببعض الإشارات التي قدمها صالح بنفسه، والتي كان آخرها خطابه، الخميس، في جمع من الشخصيات والمسؤولين في أمانة العاصمة، وفي "اللجان الشعبية". في هذا الخطاب، ظهر صالح بصورة "المُمْسِك بزمام العاصمة"، خلاف الصورة السائدة لدينا، والتي يتصدرها الحوثي وصرخته، وقد ظهر بهذه الصورة من خلال تحدثه بلسان "المُمْسِك بزمام اللجان الشعبية"، التي بدا كما لو أن اللقاء كان مخصصاً لها، والتي لم ينسَ تبرير اللجوء إليها لحفظ أمن العاصمة، بما مفاده أن هذا كان "نتيجة طبيعية" لتدمير الجيش والأمن تحت مسمى الهيكلة: "هيكلتوا الجيش ودمرتوه.. هيكلتوا الأمن ودمرتوه".
ومع اقتراب خطابه من النهاية، قال موجهاً حديثه للحاضرين: "أقول مرة ثانية، عليكم مسؤولية في أمانة العاصمة: الحفاظ على أمن العاصمة، تعاونوا على أمنها واستقرارها"!
قد يكون هذا خبراً صادماً للكثير من "أنصار الله" ومؤيديهم الذين يطالبون قيادة الجماعة بضرورة الإطاحة بصالح وعائلته، بعد علي محسن وبيت الأحمر، باعتبار أن "ثورتهم" لن تستكمل إلا بهذه الخطوة التي يبدو أن الجماعة غير قادرة على اتخاذها في الوقت الراهن على الأقل. فـ"ثورة" الحوثي و"انتصاراته" الأخيرة في صنعاء وخارجها، لا تبدو "ثورته" و"انتصاراته" هو، إلا بقدر ما تبدو "ثورة" صالح و"انتصاراته" أيضاً! وهذا لا يشكل سوى الخبر السيئ فقط بالنسبة لهؤلاء. أما الخبر الأسوأ بالنسبة لهم، فهو أن الكثير من اليمنيين -وفي مقدمتهم أناس من أشد معارضي صالح- باتوا يتمنون أن يكون زمام العاصمة سقط في يد صالح، لا يد الحوثي الذي أبلى مؤخراً بلاءً حسناً في الظهور كجماعة متغطرسة تنقض على "المعسكرات" و"مؤسسات الدولة"، وعلى "المدن"، ولا تراعي شيئاً في سبيل الوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها.
ويبقى القول في الأخير إنه أياً كان مستوى حضور ودور صالح وحزبه في ما حدث، وأياً كان مستوى سيطرته على زمام الأمور في العاصمة، فمن شبه المؤكد أن ظهوره بصورة "المُمْسِك بزمام العاصمة"، لم يأتِ من فراغ.
اطمئنوا.. العاصمة في يدي لا في يد شخص آخر!
اخبار الساعة - تحليل - نبيل سبيع
المصدر : الأولى