أخبار الساعة » فنون وثقافة » ابداعات ادبية

مروان البرغوثي في القدس ..في كتاب "ألف يوم في زنزانة العزل الإنفرادي"

- جميل السلحوت

خصصت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني لقاءها هذا المساء لمناقشة كتاب"ألف يوم من العزل الانفرادي" للقائد الأسير مروان البرغوثي والذي صدر هذا العام 2011 عن دار الشروق للنشروالتوزيع في رام الله، والدار العربية للعلوم ناشرون ، ويقع في 255صفحة.

جميل السلحوت قال:

من يطلع على كتاب(ألف يوم في زنزانة العزل الإنفرادي)للمناضل مروان البرغوثي سيجد نفسه أمام إنسان مختلف ومتميز، ليس لأنه أسير يكتب من خلف القضبان، فالأسر وعذاباته طال أكثر من ثمانمائة ألف فلسطيني من الأراضي الفلسطينية التي وقعت في الأسر هي الأخرى في حرب حزيران 1967العدوانية، بل لأنه كتب عن تجربته الطويلة  في الأسر-والتي لم تنته بعد- بطريقة مختلفة عن سابقيه، مع التأكيد على أن"أدب السجون" والكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي،و"رسائل لم تصل بعد" ومجموعة"سجينة"للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب"الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود" وقبل عام صدرت رواية"المسكوبية" لأسامة العيسة، وقبل أسابيع صدر"الأبواب المنسية" للمتوكل طه، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن، كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضاً ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة"أخبار الثقافة الجزائرية" والمعنونة بـ"أدب السجون في رواية"ما لاترونه"للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر

وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد )  وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم  بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة ، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث : نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن - لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي)  وقد يكون آخر إصدار هو رواية (ما لا ترونه – لسليم عبد القادر).

وهذا العام 2011صدر عن دار الشروق للنشر والتوزيع في رام الله، والدار العربية للعلوم ناشرون كتاب مروان البرغوثي(ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي)والذي يقع في 255صفحة، وقدم له الشاعر والاعلامي اللبناني المعروف زاهي وهبي.

والقارئ لكتاب مروان البرغوثي سيجد نفسه أمام مبدع كتب شيئا عن تجربته- ولم يكتب كل شيء- وما جرى له ومعه في فترة اعتقاله الحالية التي ابتدأت في 15نيسان 2002ولا تزال متواصلة، ونأمل أن تنتهي هذه الحقبة المريرة بأسرع ما يمكن لينعم بالحرية هو وآلاف الأسرى الآخرون، ومنهم من دخلوا عامهم الرابع والثلاثين خلف القضبان، وسيلاحظ القارئ أن مروان البرغوثي كتب سردا لتجربته فيه قص ورويّ ومذكرات وسيرة بلغة وأسلوب أدبيين، وابتعد عن الشعارات البراقة ولغة التهييج، ومع تعدد الأساليب في كتابته إلا أن المرء سيجد نفسه أمام قائد لا تلين له قناة ويعرف ما يريد تماما، قائد ضحى ومستعد للاستمرار في التضحية، قائد مؤمن بحتمية النصر المؤكد، رغم ظلام الليل الطويل، وسيجد نفسه أمام مُربٍّ يُعلم ويُربّي ويُوجه وينصح، لكنه قبل هذا وذاك سيجد نفسه أمام إنسان أولا وأخيرا، إنسان بكل ما تعنيه الإنسانية من واجبات وحقوق، وسأحاول هنا الكتابة عن مروان الإنسان من خلال ما جاء في كتابه.

مروان الإنسان:

تتجلى روعة مروان البرغوثي بإنسانيته التي يعيشها ولو مع ذاته، بالرغم من أنه يعيش في زنزانته وعزله في الأسر ظروفا لا إنسانية، في محاولة من آسريه لقتل مروان الانسان، لكن مروان الذي يعي المرحلة التي يعيشها وطنه وشعبه يحيا إنسانيته كما يريدها، وهو بهذا ينتصر على أعداء الإنسانية، وقد تجلت الإنسانية بأسمى معانيها في مروان الإنسان في مواقف ومشاعر كثيرة منها.

-         الإبن البار بوالديه:

-         يستذكر مروان والديه الفقيرين بكثير من الفخر والإعتزاز، وبكثير من الحنين وطلب الرضا، يتذكر بامتنان كبير كيف كدحت هذه الأم الصابرة في سبيل تحصيل قوت أبنائها، ويشعر بشوق والدته له، وعذاباتها من أجله، ويشعر بالخشوع أمام دموعها الغالية، ويحنّ الى تقبيل يديها كنوع من البرّ بالوالدين وردّ للجميل لأمّ مكافحة، ويتمنى لو أن الله أطال عمر والده الذي توفي ومروان لا يزال طفلا، ليرى أبناءه وقد صاروا شبابا، ولم يُرد لوالده أن يموت وخلفه أطفال يؤرقه مصيرهم.

-         الزوج المحب الوفيّ:

-         تطرق مروان البرغوثي وبفخر مرات كثيرة إلى زوجته السيدة المحامية"فدوى" واصفا إياها بالحبيبة الصابرة والمناضلة والوفية، فقد انتظرته عندما سجن للمرة الأولى، ورفضت كل من تقدموا لها، وصبرت واحتسبت، عندها أنجبت بكرها"قسّام" في أكتوبر 1985وزوجها مروان في السجن، وأسمت المولود بالإسم الذي اختاره له والده السجين، وعملت وكدحت في سبيل تربية أبنائها أثناء اعتقال زوجها، والتحقت بالجامعة ودرست الحقوق لتكون محامية تستطيع الدفاع عن حقوقها وحقوق أبناء شعبها، ورعت أبناءها في المدارس وحتى الجامعات، وجابت أكثر من أربعين دولة لتشرح قضية الأسرى الفلسطينيين العادلة، ومن ضمنهم زوجها، مطالبة بالإفراج عنهم، وشاركت في تأسيس منظمة تحمل إسم زوجها لتبقى قضيته حيّة بشكل دائم، وهي أيضا مناضلة في صفوف حركة فتح.

-         الأب الحنون: ذكر مروان البرغوثي أبناءه عشرات المرات بحب أبوي جارف، فقد عبر عن سعادته البالغة عندما أخبرته زوجته بأنها حامل للمرة الأولى، وأشار الى مخاوفه من عدم قدرته على الإنجاب بعدما تعرض لضرب مبرح على أعضائه التناسلية في اعتقاله الأول، وما أخبره به المحقق حينها من أنه لن يستطيع الإنجاب، ولحبه للأبناء ولمخاوفه مما تخبئه الأيام القادمة فقد اتفق مع زوجته على الإنتهاء من الإنجاب في خمس سنوات، فكان له من الأبناء أربعة منهم بنت، ومروان الذي يحب زوجته وأبناءه بشكل جارف، كان يتذكرهم في أصعب اللحظات التي مرّ ويمرّ بها، يتذكرهم ليستمد من حبه هذا صمودا، ومروان الذي فرح بحمل زوجته في الإبن البكر، يرسم صورة جميلة لإبنه القسام، الذي رأى الحياة الدنيا ومروان في زنزانة الأسر، لكنه عندما رآه بعد أكثر من شهرين من خلف القضبان -دون أن يستطيع احتضانه أو تقبيله- رأى فيه الروعة التي لم يستطع تصورها في خياله، وتعود الذاكرة بمروان الى الأيام التي كان فيها حرا يداعب أطفاله، ويرى بعده عنهم تقصيرا من جانبه بحقهم، لكن هذا التقصير مُبَرر ولا خيار له فيه، فواجب الوطن والشعب يستدعيان ذلك، والتضحية واجبة، لكن المفارقة المؤلمة تتمثل في إبلاغ مروان باعتقال ابنه قسام وهو في نفس الزنزانة التي علم فيها بولادته، فالأب يعيش عذابات العزل الإنفرادي، وها هو الإبن يقع في الأسر هو الآخر، ومع ذلك فإن مروان الإنسان غير منغلق في إنسانيته وعذابته، فهو هنا يتذكر فلسطينيين آخرين يعيشون في الأسر هم وأبناؤهم وأشقاؤهم ، أو منهم من صعد الى قمة المجد شهيدا في حين بقية أفراد أسرته خلف القضبان، وكأني بمروان يردد مقولتنا الشعبية"اللي بيشوف مصيبة غيره بتهون مصيبته" فهذا قدر الفلسطيني، وما عليه إلا أن يقبل ذلك، وأن يعمل على تحقيق حريته وتحرير وطنه وشعبه وبناء دولته المستقلة كبقية الشعوب.

-         مروان المواطن العادي: لا يعتبر مروان البرغوثي نفسه إنسانا استثنائيا، مع أنه كذلك، فقد عاد الى طفولته وبداية شبابه أكثر من مرة، وتحدث عن مروان الذي ولد من أبوين فقيرين، لا يستطيعان تلبية احتياجات أبنائهما، وتحدث كيف كان يمشي الى المدرسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية ما بين 8-10 كيلومترات على الأقدام يوميا، ومروان الذي هزم بصموده محققيه وسجانيه إنسان عادي، يأكل ما تيسر له من طعام في كل الظروف والأحوال، وهو يصوم رمضان منذ السادسة من عمره، ويصلي ويقرأ القرآن، ويتألم مثل بقية البشر من أمراض ألمت به، لكن ألمه الجسدي لم يؤثر على نفسيته وعلى صموده، فلم تلن له قناة، ولا يرى مروان نفسه مميزا عن بقية الأسرى، فهو يشاركهم إضرابهم عن الطعام، حتى وهو في العزل الإنفرادي، مع أنه من المتعارف عليه بين الأسرى إعفاء العزل الإنفرادي من الإضرابات عن الطعام.

-         مروان المثقف: وحرصا من مروان على تنمية ثقافته ومعرفته ومتابعة الأحداث والمستجدات، فانه ورغم المعاناة حريص جدا على مطالعة ما تيسر له من مطبوعات داخل السجن، كما أنه مشترك في الصحافة العبرية ويقرأها بالعبرية التي يجيدها، كما أنه يحرص على قراءة القرآن الكريم، وقد حفظ أجزاء منه، وهو بهذا يشغل وقته باستمرار.

وماذا بعد: كتاب مروان البرغوثي هذا صرخة مدوية من أجل تكثيف الجهود والعمل على تحرير الأسرى، وكنس الاحتلال وكافة مخلفاته وتمكين شعبنا من حقه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف.

لكن الكتابة عن هذا الكتاب لا تغني مطلقا عن قراءته، فهو يشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية.

وقال موسى أبو دويح:

 أهدى مروان كتابه إلى زوجته فدوى وأولاده الأربعة: القسّام وربا وشرف وعرب، وإلى أبناء الشعب الفلسطيني، وأبناء الأمتين العربية والإسلامية.
وقدّم للكتاب زاهي وهبي تحت عنوان: (وعد الحر... الحرّية) في ست صفحات كاملة، مقدّمة تعطي صورة وافية عن الكتاب، سيّما وأن مقدّم الكتاب زاهي وهبي سبق له وأنْ عانى مما يعانيه مروان الآن. ومما جاء في التقديم: (فالحرّية دونها تضحيات، تكتب بالدم والدمع والحبر، وكلِّ ما نستطيع إليه سبيلا من أشكال مقاومة المحتلِّ الذي لا يفهم لغة أخرى، ولا يرضخ إلا للقوّة). صفحة 10.
قسّم مروان كتابه إلى سبعة فصول هي: المواجهة، ومملكة المجهول أو الحرب الخفيّة، والمحاكمة، والعزل الإنفرادي، وحياتي في زنزانة العزل الإنفرادي، وحارسة حُلُمي، والاشتباك مع جهاز المخابرات الإسرائيلي.
الكتاب من أدب السجون، وأدب السجون اشتهر في فلسطين أكثر مما اشتهر في غيرها من البلاد في الشرق أو الغرب؛ وذلك أن نسبة المعتقلين السياسيين في فلسطين بلغت حدّا، ما أظنّ أنّها بلغتْهُ أو قريبا منه في أيّ بلد في العالم؛ حتّى لا تكاد تجدُ بيتا من بيوت الفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية أو القدس إلا ومن أفراده معتقلٌ أو أكثر. حتّى فلسطينيّو داخل فلسطين، الذين ثبتوا في مدنهم وقراهم ولم يخرجوا منها سنة 1948، عانَوْا ممّا يعانيه أهل الضفة والقطاع؛ وذلك أنّ حجة أمن يهود تجعل كلَّ فلسطيني عرضة للاعتقال؛ لأنّه يشكّل خطرًا على دولة يهود.
ومروان في كتابه لا يدّعي لنفسه أنّه تعرّض لعذاب لم يتعرّض له غيره من السجناء الفلسطينيين، بل على العكس من ذلك، فهو يقول في صفحة 21: (إنّ كلَّ ما تعرّضت له، كان مثالا بسيطا لما تعرّض له عشرات الآلاف من المناضلين الّذين تحدَّوْا الجلاّدين والسجّانين المحتلّين).
ويكشف الكاتب في كتابه مختلف الأساليب التي يتبعها محقّقو يهود في تعذيب المعتقلين، والتي صارت معلومة ومعروفة عند الفلسطينيين بعامّة. غير أنّ ما تميّز به الكِتابُ أنّه ركّز على ما يثبّت المعتقلَ أمام جلاّديه، فبيّن أنّ عليه التحمّل والصبر، وإنّما النصر صبر ساعة، وأن لا يفرّط بأيّ معلومة مهما كانت تافهة في رأيه، بل لا يعطي المحققين أيَّ معلومات على الإطلاق، وأن يبقى ثابتا على أنّه طالب حق، وأنّه لن يفرّط بحقّه وأرضه مهما كان الثمن، وأنّه سيواصل المطالبة بحقّه حتّى يستردَّه أو يموت دونه وعندها يعذر عند الله.
ولقد قرأت في كتاب مروان أسطرًا وقفت عندها متأمّلا متردِّدًا فيما يريد أن يوصله إلى عقول الفلسطينيين. جاء في صفحة 28 قوله: (من أسلوب احباط المعنويات أيضا قول المحققين: "إنّ السلطة فاسدة، ومسؤوليها باتوا تجّارًا أثرياء وأصحاب ملايين، وإن كثيرًا من قادة السلطة لا يريدون أن يروا مروان البرغوثي إلى الأبد، بل تمنَّوْا أن يموت في السجن". وقالوا أيضا: "إنّ بعض قادة السلطة قد تآمروا عليك، وقدّموا معلومات عنك، وإنّهم تخلّصوا منك الآن، وإنّك ستموت في السجن وقد ضاع مستقبلك إلى الأبد، وفلسطين راحت.... وإنّ القادة الفلسطينيين جبناء يرسلون أبناء الفقراء والمساكين إلى الموت، أمّا هم وأبناؤهم فيهربون."). فهل يقصد مروان من وراء ذلك أنّ أقوال المحققين هذه كذب وافتراء على السلطة الفلسطينية، أم يريد أن يكشف واقع السلطة الفلسطينية وأن هذا ليس رأيه هو بل هو أقوال المحققين الذين حققوا معه.
والذي يرجِّح الرأي الثاني انطباق هذه الأقوال على واقع كثير من أفراد السلطة الفلسطينية. ويدعم هذا الترجيح قول الكاتب في صفحة 245:(ويمكن القول إن المخابرات الإسرائيلية ركّزت على تجنيد العملاء من بين العاملين في الأجهزة الوطنية. حيث أنها لم تثق يوما بالتعاون الأمني مع أجهزة السلطة، ولم تعتمد عليه إلا بقدر محدود جدا، وبالنسبة لها كان تجنيد عاملين في الأجهزة يشكل مصدر معلومات مهما جدا؛ بسبب قدرة هؤلاء بحكم عملهم ووظائفهم على الحصول على المعلومات التي ترغب المخابرات في الوصول إليها، في ظلّ غطاء رسمي لعملهم ونشاطهم.
وختامًا الكتاب وثيقة مهمة من وثائق أدب السجون، جدير بكل فلسطيني – وعلى الأخص الشباب- أن يقرأه، وأن يعمل بما جاء فيه إذا وقع في السجن، وحريّ بكل بيت أن يقتنيه.

 

 وقال سمير الجندي:

مروان البرغوثي القائد...

جل ما شدني إلى القراءة هو ذلك الأسلوب المشوق الذي سرد به الكاتب مروان البرغوثي أحداث اعتقاله وظروف ذلك الاعتقال، بأسلوب لغوي خال من التعقيد وغريب الرمز، رغم تقريريته في أجزاء كثيرة من الكتاب،  وما لفت انتباهي أن مروان البرغوثي يفيض إنسانية خاصة بعلاقته المميزة مع أسرته زوجته وأبنائه، ما جعلني أفكر مليا بالكتابة عن مروان الإنسان ولكن أخي وزميلي الشيخ جميل السلحوت سبقني إلى ذلك ما دفعني للبحث عن مدخل آخر للكتابة، فوجدتني أتناول جانبا مهما من جوانب شخصية البرغوثي ألا وهو " مروان البرغوثي القائد" وخير قائد هو القائد الإنسان المحب لأسرته ومجتمعه، ورفاقه وأخوته في خندق الواجب...

لقد برز مروان منذ بداية حياته النضالية كقائد تدرج بالقيادة حتى صار على رأس الهرم الفتحاوي تقريباً... وها هو يتكيف مع الواقع الذي وضع فيه قسرا، هو قائد في التشريعي وقائد في لجان حركة فتح وقائد في زنازين التحقيق، وقائد في العزل الانفرادي، فقد استطاع توجيه دفة التحقيق بذكاء وقَّاد عندما لم يتجاوب مع أسئلة المحققين، فقد حدد محاور التحقيق الأساسية منذ اللحظة الأولى فهو يقول:" تركز التحقيق معي على محاور أساسية اعتبرها المحققون اجبارية ومن أبرزها: العلاقة مع الرئيس ياسر عرفات، والتنظيم وكتائب الأقصى، والتسليح وتبني العمليات، ومصادر التمويل، والعلاقة مع الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، والتركيز على العلاقة بعمليات بارزة" (ص 33-35).مارسو كافة الأساليب للضغط على الأسير القائد مروان البرغوثي، فكان الضغط النفسي الممنهج وسيلتهم الأساسية بل إنهم وضعوا العملاء معه في زنزانة واحدة معتقدين أن مروان البرغوثي هو دليلهم لإيجاد المبرر والمصداقية لحربهم في مناطق السلطة الفلسطينية، فقد ذكر المحققون" أن رئيس الحكومة شارون، ورئيس الشاباك، ووزير الدفاع يتابعون التحقيق أولاً بأول، وهم غاضبون لأنه يرفض الحديث والتقدم شيئا" (ص 41).

فهو يتخذ قراراً نهائيا لا رجعة فيه يعبر من خلاله عن تصميم القائد الحقيقي، ألا وهو عدم التعاون في التحقي،ق وعدم الإدلاء بأي معلومة مهما كانت، والتصميم على تحمل العذاب بما في ذلك الاستشهاد... هذا هو القائد وهذه هي درجة الوعي التي يحتاج اكتسابها كل مناضل فهو يتسلم زمام الأمور، ويدير الدفة بذكاء، بل ويرسل عبر كتابه هذا مجموعة من النصائح والتوصيات التي من شأنها مساعدة المناضلين في الصمود والثبات، والانتصار على المحقق مهما كان جبروته، يقول: " إن على المناضل أن يدرك إنه في مهمة نضالية، ومن واجبه المحافظة بروحه ودمه وجسده على ما يحمله من معلومات، كما أن كلمة المناضل في التحقيق تساوي سنوات في الأسر، واعترافه يعتبر خدمة يقدمها للاحتلال، وعليه تجنب الثرثرات، وعليه مقاومة الإغراءات بكبرياء مقاتل والابتعاد عن طلب أي شيء من المحقق مهما صغر شأنه..." (ص57).

يسير بنا مروان البرغوتي في كتابه بكل سلاسة ويسر تجاه موقف يلامس استراتيجية وطنية ما كانت حالتنا تصل إلى ما وصلت إليه من بهت في الموقف النضالي الاعتقالي، ومن ضبابية في التعامل مع واقع الأسر خاصة بما يتعلق بالمحاكم الإسرائيلية التي تمثل الجلاد بعيدا عن العدالة الإنسانية، فقد عبَّر مروان البرغوثي عن موقف سياسي يعتبر قمة المواقف هو لم يدع إليه فقط، بل نفذ ذلك عملا وقولاً لدرجة أنه خلق بلبلة في صفوف جهاز المخابرات الإسرائيلية، مما يدل على نتائج هذا الموقف فيما لو نفذه جميع من دخل المعتقل مهما بلغت درجة محكومية الأسير، فقد رفض البرغوثي الاعتراف بمحكمة الاحتلال، ورفض تعيين محام يترافع عنه، ورفض الوقوف للحاكم، وجعل من محكمته منبرا شرح فيه موقفه السياسي، أمام الصحافة التي أخرجها الجنود فوراً مما يدل على هزيمتهم أمام هذه القامة القيادية، يقول:" إنني أعلن هنا عدم اعترافي بصلاحية إسرائيل في اعتقالي واختطافي والتحقيق معي ومحاكمتي، وأعتبر إجراءاتها كافة جريمة من جرائم الحرب" (ص63). فهو يدعو بصراحة إلى مقاطعة محاكم الاحتلال، وهذا موقف يجب أن يحظى باهتمام جميع الفصائل الفلسطينة في تعبئة كوادرها على هذا الأمر، لقد رأيت في كتاب البرغوثي هذا منهجا دراسيا للمسلكية الثورية للمناضلين سواء كانوا في المعتقل أو خارج المعتقل، وإننا حقيقة نفتقر إلى منهج من هذا النوع، إذ إننا نعاني في مجتمعاتنا الثورية أزمة في اللاوعي وسوء التصرف، وضعفا واضحا في الانتماء الحقيقي للوطن، فهناك طلبة لا ينتمون إلى جامعاتهم، وهناك لموظفون لا ينتمون إلى وظائفهم، فوضع مسلكية ثورية أخلاقية ضمن مناهجنا الثورية والتعليمية أمر لا بدَّ منه، لنتعلم من دروس دفعنا كثيرا من الجهد والقهر والأموال والأنفس مقابلها...

لقد عبَّر مروان عن حسرته لتراجع ظاهرة رفض المحاكم الإسرائيلية بعد إغراءات من قبل المخابرات الإسرائيلية، وبعد أن تعذر عليه متابعة الأمر مباشرة مع الموقوفين، فهو لذلك يجد المبرر لكنه يبقى مبرراً ضئيلاً أمام النتائج التي من الممكن أن تتحقق إذا ما استمر قرار المقاطعة هذا...

إن مروان البرغوثي قد وضع اللبنة الأولى بهذا الشأن، وعلى المسؤولين متابعة الأمر ودراسته دراسة جدية منهجية، لأن كسر قرارات الإسرائيليين في أي شأن فيه انتصار للمسيرة النضالية لشعبنا الفلسطيني...

وها هو يحوّل أسره إلى منارة للعلم، فيستغل وقته الطويل بالقراءة والعلم والتأمل، وهنا نجده يتعامل مع الأمر بكل موضوعية يقرأ القرآن، والكتب السياسية باللغة العربية والعبرية، ويقرأ الصحف العبرية ويعلم اللغة لرفيق له في الزنزانة المقابلة، ويقرأ الروايات والأشعار، ليكون قدوة لزملائه ورفاقه وإخوانه في الأسر، بل ويدعو الأجيال لاكتساب عادة القراءة لما فيها من فائدة في صقل الإنسان الفلسطيني وبناء شخصيته على أسس تربوية ثقافية ما ينعكس على المجتمع بالفائدة...

أشار الكاتب إلى دور القائد تجاه أبناء شعبه من كل الطوائف عندما قال: قرأت بعض أجزاء القرآن الكريم وحفظتها، وخاصة ما يتعلق بالمسيحية والمسيحيين، خاصة أن لفلسطين خصوصية ناحية الدين المسيحي بوصفها مهد الديانة المسيحية" (ص132).

لا يهم أين يكون القائد سواء خلف قضبان الأسر أم في الهواء الطلق، فهو يقوم بدوره في الحالتين، يذكر مروان الدور الذي لعبه في بداية الانتفاضة وتحديدا محاوراته وتنسيقه بين حركة فتح وبين الأطر السياسية الأخرى، فقد كان على تواصل مع القيادة السياسية ممثلة بالرئيس الراحل ياسر عرفات، وبين القيادات الميدانية والكوادر التنظيمية والنضالية، فهو يحافظ ويحمي القرار السياسي، لكنه في الوقت نفسه يرد على انتهاكات العدو، فالنضال خياره الاستراتيجي، ووحدة شعبنا متأصلة في نفسه، فهو يعلن الهدنة نزولا عند القرار السياسي ويرفع الهدنة ردا على اغتيال أحد كوادر كتائب الأقصى وهو الشهيد رائد الكرمي،  فيوقع في العدو ضربات موجعة تجعله مذهولا أمام هذا الرد، يقول: " على أثر عملية الاغتيال انهارت الهدنة وقامت الكتائب بسلسلة من العمليات هي الأقوى منذ اندلاع الانتفاضة رداً على اغتيال أحد أبرز مؤسسيها..." (ص155).

لقد ساهم مروان في الحوار الداخلي فهو من داخل زنزانته يوقع اتفاقا عجز عن توقيعه الذين يتمتعون بحريتهم ما يدل على مقدرته القيادية خاصة في انهاء الأزمات الداخلية، يقول: " فقد تم التوصل إلى بيان مشترك تقرر الإعلان عنه وتوقيعه باسمي إلى جانب خالد مشعل ورمضان شلَّح..." (ص 157)، فقد لقي هذا الاتفاق ترحيبا شعبياً كبيراً ما يوحي بمقدرة كبيرة لقائد من الدرجة الأولى... كيف لا وقد كان قدوته الشيخ عز الدين القسَّام هذا القائد الجليل الذي قدم من سوريا الشقيق، ليقود حركة النضال الفلسطيني في بدايات القرن الماضي، وقد أطلق البرغوثي اسم ابنه البكر "قسَّام" تيمنا بالشهيد الشيخ، فالقائد هنا قدوته القائد ورمزه الوفاء والتضحية...

لكنني لا بد أن أتطرق ولو باليسير إلى الأسلوب المشوق والجميل خاصة رسالته لابنه القسَّام، فقد كانت رسالة موجهة ليس للقسَّام فحسب، إنما هي رسالة موجهة لكل الشباب الفلسطيني، فهذا الجزء من الكتاب يمثل الأقوى أدبيا ولغويا،

المصدر : القدس

Total time: 0.0611