عاشت اليمن مخاضا عسيرا خلال أكثر من عشرة أشهر مضت، كان من نتائجها ما يلي:
• تدهور الحالة الأمنية بصورة غير مسبوقة، وهي حالة أشبه ما تكون بحالة عام 94م إبان حرب الانفصال .
• التضخم الكبير للسلع والمواد الأساسية التي تضرر منها الشريحة العظمى من المجتمع. • البطالة المتزايدة المخيفة لشرائح كثيرة في المجتمع .
• تعطل الدراسة الجامعية والعامة، أو ضعف الانضباط فيها على مدار عام كامل.
• التسيب الوظيفي وقلة الإنتاج.
• ضعف الخدمات العامة أو انعدامها.
• شحن النفوس بالكراهية والحقد والبغضاء.
• اتساع الشرخ بين الأحزاب فيما بينها وبين مكونات المجتمع وأطيافه. هذه الآثار المدمرة أفرزت جوا من التوتر وعدم الاستقرار، والخوف من تدهور الأوضاع بصورة أشد ضرواة وأعظم أثرا.
بعد كثير من التجاذبات والمناورات تم الاتفاق على المبادرة الخليجية للخروج من الأزمة كحل وسط، يلبي تطلعات الجماهير المتشوفة إلى نظام يحميها، ويوفر لها الأمان والاستقرار، ويحفظ لها كرامتها وشرفها، وهو اتفاق له أبعاد كثيرة، وحسبنا أنه وسيلة إلى حقن الدماء المعصومة من العسكريين والمدنيين الذين تساقط كثير منهم خلال المرحلة السابقة، فعانى المجتمع بأكمله مرارة هذا الدماء والفوضى التي كادت تعصف بمكوناته، لكن هذا الاتفاق وسيلة لتلبية مطالب الجماهير الكثيرة، التي لا يمكن تحقيقها والإيفاء بها إلا إذا توافرت النوايا الحسنة من جميع أطراف النزاع، بل وحتى من الجماهير التي يجب أن تتفهم وتدرك ظرفية المرحلة والإمكانات المتاحة، وأن تساعد في خلق جو متفاعل ومنتج.
من هنا يأتي دور أجهزة الإعلام بكافة أطيافها وانتماءاتها المنوط بها الإعداد الجيد للمرحلة القادمة؛ لتكون أداة بناء لاهدم وتضطلع بدورها الهام والمحوري في تثقيف المجتمع وتهدئة الأجواء والبعد عن النقد الجارح وعن الإساءات والشماتة والتشفي والسخرية، فإن هذه معاول تهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع، بل قد تنسف كل الجهود المبذولة، فوقع الكلام كما قيل قد يكون أعظم أثرا من وضع السهام، والحرب أولها كلام. لكن الملاحظ أن أجهزة الإعلام وبعض السياسين وللأسف الشديد لا يزالون يعيشون تبعات المخاض العسير، ويصدر من بعض هؤلاء السياسين وبعض قوى النفوذ كثير من الاستفزازات والإساءات غير المبررة لرموز النظام السابق بصورة تنم عن حب انتقام وتشف مما قد يكون سببا في تعقيد الأمور إن ظلوا صامدين على هذه الوتيرة المتشنجة من أناس لم يألفوا غيرالنقد الجارح ويعيشون على الفتن، علما بأن كثيرا من هؤلاء يعدون جزءا من النظام أومن حلفائه أوممن انتفع به، فعلام هذا التهور في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى لملمة الجراح وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والانطلاق إلى الأمام بروح الفريق الواحد وبكل مثابرة وجدية واقتدار؛ لتحقيق الأهداف المرجوة من هذه الحكومة ذات الأطياف الواسعة، التي لم يكن تشكليها على المستوى المرغوب، فالآمال معقودة عليها لتحسين الوضع، والارتقاء بالبلد من هذه المرحلة الكئيبة إلى مرحلة أفضل تنظيما وأداءا، وللتمهيد لثقافة عامة تؤدي إلى أن يصل الجميع إلى قناعة بأن الوظائف الكبيرة منها والصغيرة تكليف وأمانة، لا تسلط وجباية، وأن الرجل المناسب لا يوضع إلا في المكان المناسب، بناء على أمانته وكفاءته، والبعد كلية عن المجاملات والوسائط، القائمة على توزيع الوظائف على النافذين وأبنائهم وأحفادهم وأقاربهم وجيرانهم وأصدقائهم ومن يمت إليهم بصلة أو معرفة، إلى نهاية هذه السلسلة القاتلة لكل منجز حضاري ، وهذا بدوره يستلزم إجراءات متشابكة، تهدف إلى وضع حد للتجاوزات الكثيرة التي تستنزف خيرات البلاد وموارده العامة، في بلد يعاني أساسا من شح في الموارد وركود في الاقتصاد، وليكن شعار الجميع في هذه المرحلة البالغة الحساسية: ( من أين لك هذا؟).
هذه المرحلة الهامة من الحياة السياسية يبدأ انطلاقها من مسارين اثنين، مسار إصلاح الفساد المالي والإداري، ومسار التنمية والتحديث، ولا يتحقق إصلاح وتنمية إلا في بيئة آمنة ومستقرة، وهذا الأمن والاستقرار مرتبط تماما بإشاعة العدالة الاجتماعية والقضائية، وانتشال الجهاز القضائي من وضعه الراكد إلى مرحلة يتبوأ فيها الصدارة، ويسترد فيها عافيته وقوته، ويقوم بمهامه المنوطة به بكل حزم بعيدا عن المماطلات والتعقيدات المملة، واعتبار أن السلطة القضائية فوق كل السلطات، لا تعلوها سلطة، مع التنفيذ السريع من قبل السلطات الأمنية لكل الأحكام الصادرة من جهته، دون محاباة أو مجاملة لأحد كائنا من كان، هذه أولوية لابد من أخذها بالحسبان.
وغير خاف على أحد ضعف مواردنا الاقتصادية وانكماشها، وهنا يأتي دور رجال الاقتصاد الذين يعول عليهم في إيجاد مناخ استثماري متنوع في عالم أصبحت فيه المنافسة الصناعية هي سيدة الموقف، فلا مكان فيه للكسالى والضعفاء، وبلادنا بحمدلله تزخر بكادر بشري طموح وبناء ولديه القابلية للتطويرإذا تهيأت له الظروف البيئية الملائمة، وليس أدل على ذلك من النجاح الباهر الذي حققه خارج حدوده في كل الأنشطة الانتاجية والعمرانية، لكنه أيضا بحاجة إلى مزيد من التطوير والتدريب العالي في كل المجالات، كما أننا بامس الحاجة في هذه المرحلة إلى إعادة النظر في مناهحنا التعليمية التي يجب أن تولي سوق العمل جل اهتمامها بحيث تكون مخرجات التعليم متوازية وملبية لحاجة هذه السوق، وفي تصوري أن حاجتنا إلى التعليم المهني بواسطة المعاهد الثانوية والفنية المتخصصة أكثر من حاجتنا إلى التعليم العالي، كما أن التركيز في المناهج على الارتباط بروح الشريعة دافع كبير إلى سمو الأخلاق وتقدير المسؤوليات وانتشار السكينة العامة. ومن متطلبات البيئة الاستثمارية الناجحة إنشاء الجمعيات المدنية المتخصصة في المجالات الصناعية والانتاجية والعمرانية والتسويقية وكافة الأنشطة البشرية ؛لتكون بمثابة المحاضن لكل هذه الأنشطة، ولتشكل محورا أساسيا في استقطاب الكوادر البشرية وتدريبها وتوجيهها.
كما أن التغلب على العقبات التي ستواجهها الحكومة كثيرة تستلزم بناء المؤسسات الحكومية بناء متينا قائما على أسلوب الإدارة الحديثة، والعمل على إنشاء هيئات استثمارية متخصصة تقوم بدراسة هذه العقبات وإيجاد الحلول المناسبة لها مع مراعاة التدرج في تطبيقها؛ لأن الإرث ثقيل ومتراكم.
إن النظام القبلي والعشائري والأسري القائم على مبدأ التعاون والتكافل والتناصر المبني على الحق أمر لاغبار عليه، وهو مطلوب شرعا وعقلا، وحين تصير هذه المنظومة عقبة أمام أي إصلاح وبمثابة سلطة موازية لسلطة الدولة وتتمحور مصالحها حول ذاتها دون اكتراث بمصالح الآخرين فإنها مرفوضة رفضا تاما؛ لأن جنايتها على الأمة والمجتمع كبيرة جدا، وتشكل خطرا داهما على كل المستويات، وهي قضية شائكة ومستفحلة في مجتمعنا، وللقضاء على هذه الظاهرة يتوجب على الحكومة تسليط الضوء عليها من خلال التوعية الجادة، ومن خلال إحلال العدالة وبسطها في ربوع البلاد، حتى يعرف الناس مالهم وما عليهم دون استثناء لأحد، وهذا كفيل بإذن الله للحد من هذه الظاهرة السيئة ،وسيتقلص حينها دور جماعات النفوذ المتمركزة في مفاصل النظام، فلا أحد فوق القانون، والمهام والواجبات منوطة بكل أفرد وفئات المجتمع كل في موقعه، والجزاء على قدر العمل.
وأخشى ما أخشاه أن تنشغل الحكومة والمجتمع بقضايا انتقال السلطة والعزف على وتر الحريات العامة، فتشكل ملهاة للشعب وتضييعا للاستحقاق المتوجب عليها في حين أن الحريات في بلادنا مفتوحة ومتحققة إلى درجة الفوضى، فقد شبع الناس منها إلى حد التخمة، ولم نبن من خلالها مجدا ولا نظاما محترما، بل جنينا من جرائها مهاوشات ومصائب عمت آثارها البلاد والعباد، نحن بحاجة ياسادة إلى بناء المؤسسات بناءا علميا حديثا، وبناءا اقتصاديا متنوعا وبحاجة إلى سد حاجات الناس وتوفير فرص العيش الآمن، ونشر الأمن والعدالة ،وإيجاد الفرص المتكافئة، واحترام وتقدير هذا الإنسان الذي أكرمه الله وأعزه، والاعتناء ببنائه عقائديا وسلوكيا، وتعميق أثر الدين في الفرد والمجتمع، فلا عز لنا ولا سعادة إلا بالالتفاف حول شريعتنا وديننا، الذي رضيه الله لنا، واختارته أمتنا بكل قناعة، وهي على استعداد للدفاع عنه بالغالي والنفيس، والأحداث الجارية من حولنا خير شاهد على ما أقول، وعلى الذين يحاولون جر المجتمع إلى قضايا تتنافى مع دينه وأخلاقه العريقة الكف عن مساوئهم هذه، والتخلي عن الجنوح بنا إلى مفازات ومغارات نتلهى بها تحت مسميات واصطلاحات لا تخدم أمتنا وقضيتنا، بل إن البعض على استعداد تام لتنفيذ مخططات الأعداء القاضية بصرفنا عن ثوابتنا وعقيدتنا وإشغالنا بقضايا لاتشكل أي أهمية لمجتمعنا حبا في نيل القرب منهم، وتحسينا لصورتنا أمامهم على حد زعمهم ، وتجنبا لإثارتهم متشبهين بالقائلين: (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)) ، حان وقت العمل والجد فقد كثر الكلام وشبعنا منه، فالفرصة سانحة والأعذار غير مقبولة، ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)).
وكتبه الدكتور/ محمد عبدالله عايض الغبان