الغفوري يكتب “ليلة سقوط الجمهورية”
اخبار الساعة - صنعاء بتاريخ: 29-10-2014 | 10 سنوات مضت
القراءات : (11164) قراءة
كشف الكاتب الروائي المعروف مروان الغفوري عن أهم الاحداث التي وقعت ليلة سقوط العاصمة اليمنية صنعاء بيد الحوثيين.
وأوضح الغفوري في مقاله “ليلة سقوط الجمهورية” على صفحته الشخصية أهم أسباب سقوط العاصمة صنعاء في21 سبتمبر الماضي. وسرد أهم الاحداث بين الرئيس عبدربه منصور هادي ورئيس حكومة الوفاق محمد سالم باسندوة ووزيري الداخلية والاعلام وتواطؤ وزير الدفاع مع الحوثيين.
اخبار الساعة يعيد نشر المقال المنشور على صفحة الغفوري:
في الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 سقطت الجمهورية في اليمن، وصعد نظام جديد خليط من الميليشاوية والملكية والجمهورية بمرجعية ثيوقراطية متوحّشة.
يتحدث مشايعو هذا النظام عن رحمته وعدالته. أما الآخرون، وهم الأغلبية، فيتحدثون عن جبروته ولا أخلاقيته. بموازاة ذلك منح هذا النظام الجديد أتباعه الأمن، وقال إنهم المواطنون الصالحون. أما الآخرون فكان الخوف نصيبهم، وكانوا بنظر هذا النظام الجديد مجرد لصوص، وإرهابيين، وعملاء. هكذا انقسم المجتمع أفقياً منذ اليوم التالي للسقوط.
بقيت نسبة من السكّان خارج هذه الثنائية، وهؤلاء علقوا بين المواطنين الصالحين والأشرار.
لا يعلم أحد كم من العمر يبلغ هادي، لكنه لا يزال قادراً على الكذب كفتى في العشرينات. ولا يعلم أحد كم لديه من الأولاد لكنهم يشاركونه الكذب كشيوخ في الثمانينات.
حاصر الحوثيون عمران، واختلقوا الذرائع. كان قائد اللواء 310 أحد أشهر خصومهم العسكريين. حشد الحوثيون قدرات رهيبة وحاصروا مدينة عمران لأشهُر. أما هادي فقد قال للسفراء الأجانب إن ما يجري في عمران ليس سوى مناوشات بين الإصلاح والحوثيين. سقطت عمْران، وقتل قائد اللواء مع مجموعة من قادة اللواء وجنوده فلم تصدر وزارة الدفاع، ولا الرئاسة، بياناً، ولا حتى بطاقة عزاء. حتى تلك اللحظة كان مكتب هادي يوزع بطاقات العزاء على الجمهورية اليمنية حتى ليخيّل للمتابع أن اليمن يمرّ بوباء. بعد أيام زار هادي مدينة عمران الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. برر ذلك، بحسب حديثه لهيئة الاصطفاف الوطني بجملة “هددت السفارة البريطانية بأنها ستغلق أبوابها، وأن البعثة ستغادر”.
وعندما سئلت السفيرة البريطانية عن ذلك قالت إنها لم تتحدث معه بهذا الشأن، وأن بريطانيا لا تفكر بالتخلي عن اليمن في هذا الظرف. كان هادي يحاول منح الغزو الحوثي لعمران مشروعية داخلية وخارجية، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد.
انطلق إلى السعودية. أمام الملك بكى هادي طويلاً وارتجفت أصابعه. الظروف صعبة، والخدمات رديئة، والحوثيون يحاصرون صنعاء، وصنعاء بوابة الرياض. هكذا كان يتحدث إلى الملك.
تبرع الملك لليمن بحوالي ثلاثة مليارات دولار، منها 700 مليون دولار لتأهيل العتاد العسكري، بما في ذلك الطيران الحربي. قال هادي للملك، بحضور وزير الخارجية السعودي ووزير المالية، إن اليمن عازمة على التصدّي للحوثين وأن القدرة فقط هي ما يعجزها، لا الإرادة السياسية. بعد عودته من السعودية رأس هادي اجتماعاً للحكومة قال فيه إن السعودية عرضت تدخل الجيش السعودي لحماية صنعاء، مستعيراً كلمات الملك السعودي “اليمن الفناء الخلفي للسعودية”. لكنه ما إن غادر الاجتماع حتى طلب لقاء السفير الأميركي. في اللقاء قال هادي للأميركيين إن السعودية تضغط عليه ليخوض حرباً ضد الحوثيين، وأن اليمن غير قادر على مثل هذه الحرب.
قال أيضاً أن هناك اتفاقات سياسية مع الحوثيين وأنه لم يُسجل عليهم خروقاً حتى الآن. اقترب الحوثيون من صنعاء فقال هادي في خطاب نشرته القنوات الرسمية إن الحوثيين لم يلتزموا باتفاقية واحدة منذ العام 2011.
إذا عدنا إلى الخلف قليلاً لنتأمل هادي من الأعلى فسنراه يمسك بالسماعة ويهاتف الرئاسة الجزائرية. طلب من النظام الجزائري أن يعتذر عن لقاء الوفد اليمني برئاسة باسندوه. كان باسندوه قد سافر إلى الجزائر مع وفد رئاسي رفيع لغرض “طرق الأبواب” والبحث عن أصدقاء جدد ومساعدات جديدة. مستنداً إلى علاقة قديمة مع بوتفليه أمل باسندوه أن يعود الوفد بمكسب يليق بحجم الزيارة.
اعتذر بوتفليقه عن لقاء الوفد اليمني، وكانت الحجة: إن الرئيس يعاني من وعكة صحية. أما هادي فقد أبلغ السعوديين بالقصة على النحو التالي: باسندوه اتجه إلى الجزائر، ويبدو أنه يدبّر شيئاً للملكة من واقع معلوماتنا. غضب السعوديون، وهم غالباً ما يديرون سياستهم الخارجية بالغضب تارة وبالانحناء تارة أخرى. في الأشهر التالية سترفض السعودية إعطاء باسندوه تأشيرة دخول إلى أراضيها قبل أن يكتشف الرجل السر، ويشرح موقفه للجيران.
على طريقة العبد المسحوق يتصرّف هادي. يكذب في كل الاتجاهات، يخدع كل الاتجاهات، ويسقط في كل الاتجاهات.
وبالنسبة لدبلوماسي غربي رفيع فإن هادي أمام خيارين، في هذه الساعة: أن يفرّ إلى الخارج، أو أن يعيش كنسخة أخرى من فارس منّاع بدرجة رئيس جمهورية. يقول المسؤول الغربي: تقديري أن لدى هادي الاستعداد النفسي لأن يلعب دور فارس منّاع، على أن يلقب بالرئيس.
رفع الحوثيون جاهزيتهم القتالية لاقتحام صنعاء. استخدم الحوثيون، بحسب تقارير وزارة الداخلية، كل وسائل الاتصالات الخاصة بالتشكيلات العسكرية التابعة لصالح، وكان عمّار صالح هو المزوّد الرئيسي لكل أشكال المعلومات حول صنعاء. كان عمار وكيلاً لجهاز الأمن القومي، لم يترك في الجهاز الأكثر الأهمية سوى الأشياء الأقل أهمية عندما أقيل من منصبه. الرواية الخاصة بوزارة الداخلية تقول إن الأطقم العسكرية التابعة لصالح انتشرت في الأحياء وباشرت عمليات اقتحامات وهي ترفع شعار الحوثيين. أما صالح فقد كان على اتصال مستمِر بقيادات عسكرية في صنعاء.
قبل السقوط اجتمع هادي بهيئة الاصطفاف الوطني وأخبرهم بقصة فانتازية عجيبة. قال لهم إن الأميركيين أخبروه بأنهم لاحظوا، عبر أقمارهم الاصطناعية، تناقصاً مستمرّاً في أعداد الحوثيين حول صنعاء. وبالنسبة لهادي فإن ذلك يعني أنه لا داعي لمزيد من القلق، وأن المسألة في طريق حل نفسها بنفسها.
كان حريصاً طيلة الوقت على تأكيد أن كل شيء على ما يُرام. لكنه عاد، كما روى لي أكثر من شخص حضر اللقاء، وطلب من هيئة الاصطفاف أن تنشئ مخيمات جوار خيام الحوثيين. ذهب بعد ذلك إلى قيادات حزب الإصلاح وطلبَ منهم أمراً عجيباً. فقد سمعوا منه رجاءً خاصاً بأن ينشئوا مخيمات جوار خيام الحوثيين حول صنعاء. رفض الإصلاح، واعتذرت هيئة الاصطفاف الوطني، فلجأ هادي إلى حيلة أخرى.
أرسل وفداً كبيراً إلى صعدة للقاء عبد الملك الحوثي. ما إن وصل الوفد إلى صعدة حتى طلب هادي من وزير الإعلام أن يعلن التلفزيون خطاب حرب ضد الحوثيين.
لكن وزير الإعلام رواغ هادي وملأ الشاشة بالأغاني الوطنية والشعبية. فشلت حيلة هادي، فاشتعل غضباً وهاتف أحد الوزراء ـ كما أخبرني ـ مستفسراً عن امتناع التلفزيون عن نشر “بيان الحرب” فأخبره أنه لا يعرف عن الأمر شيئاً، وأن المخول بالإجابة هو وزير الإعلام.
كانت خطة هادي تتحرك كالتالي: بما إن هنالك وفداً رئاسياً في صعدة، وخطاباً حربياً في التلفزيون فليس لذلك من تفسير سوى أن حزب الإصلاح هو من يرفض السلام الداخلي ويسعى إلى التصعيد. في الاجتماع الأخير لهيئة الاصطفاف سأل باتيس ـ إصلاح حضرموت ـ وزير الدفاع “لماذا لا تدافعون عن صنعاء” فرد الأخير “تريدون منا أن نتخلص من الحوثيين لكي تتفرغوا لنا”.
كانت خارطة صنعاء ليلة السقوط كالتالي: هادي ووزير دفاعه في القصر، مسلحو الحوثيين ينتشرون في كل مكان، ميليشيات صالح تحت لوحة حوثية يقتحمون الأحياء، وزارة الداخلية مشلولة كلّياً، وهناك فقط 500 شخصاً هم من وقفوا دفاعاً
عن صنعاء، سيتذكرهم التاريخ.
بحسب الرواية الخاصة التي انفردت بها وزارة الداخلية فلم يدافع عن صنعاء ليلة ال 21 من سبتمبر سوى 500:
200 فرداً من اللواء 314 حول التلفزيون، و300 شخصاً في الفرقة الأولى مدرّع من المستجدّين المحسوبين على الثورة.
وضعت اللجنة الأمنية العليا خطة على الأوراق، ثم أصدرت بياناً يطالب كل وحدات الجيش بالبقاء في ثكناتها. انقطعت الصلة بين وزارة الداخلية والرئاسة، وبين الداخلية والدفاع. عشرات الاتصالات التي أجراها وزير الداخلية مع كل من رئيس الجمهورية ووزير الدفاع لم يجب عنها أحد. ترك هادي ووزير دفاعه صنعاء تغرق بمفردها.
تحرك هادي ووزير دفاعه تلك الليلة على نحو مريب. أبلغ وزير الدفاع القيادات العسكرية في صنعاء بأن الأطراف كلها، بما في ذلك الرئاسة، على وشك توقيع اتفاق للسلام والمصالح، وأنه لا داعي للمواجهة أو الاستنفار. في الوقت نفسه أبلغ وزير الدفاع قيادات حزب الإصلاح بأن الدولة اتخذت قراراً بشنّ الحرب، وأن عليهم أن يكونوا عند مستوى اللحظة.
انتشر الإصلاحيّون في أماكن كثيرة في صنعاء، وتجمّعت حشودهم لدى القبائل، وكان أكبر تجمّاً للإصلاح في أرحب. ففي صباح الواحد والعشرين من سبتمبر كنت على تواصل مع متطوّعين في أرحب وكانوا في كامل استعدادهم النفسي والذهني. بالنسبة لرواية وزارة الداخلية فقد “تبخّر الإصلاحيون فجأة من كل مكان”.
أما هادي فكان على الهاتف يبلغ المجتمع الدولي بأن ما يجري مجرد مناوشات بين الإصلاح والحوثيين، وأن الإصلاحيين لأسباب غير معروفة يرفضون اتفاقات السلم والمصالحة. هذه الرواية جاءت أيضاً على لسان السفير الأميركي الذي قال لدبلوماسي يمني رفيع بأن وزارة الدفاع أبلغتهم بأن كل شيء على ما يُرام، وإن الإصلاحيين فقط هم يحاولون الاصطدام مع الحوثيين، وأن ما حدث في شملان ليس سوى مناوشات بين الطرفين.
حتى يوم السقوط كان السفراء الأجانب يرددون إن كل المعلومات التي تردهم من الرئاسة والدفاع تتحدث عن التزام الحوثيين بالاتفاقيات، وأنهم لم يسجلوا خرقاً واحداً من قبل الحوثيين.
لكي تكتمل اللعبة المدمّرة طلب هادي من اللواء علي محسن الأحمر العودة إلى الفرقة الأولى مدرّع. كان اللواء 314 الواقع في شمال العاصمة قد سقط كلّياً في يد الحوثيين بعد أن طلب وزير الدفاع عن القادة المغادرة، ثم ذهب صباح اليوم التالي وطلب من الجنود الاستسلام كما روى الجنود لصحيفة المدينة السعودية، ولأكثر من وسيلة إعلامية أخرى.
تبخّر الإصلاحيون وبقيت الفرقة الأولى مدرّع بـ 300 مجنداً شاباً. طلب هادي من محسن أن يواجه ووعده بستين دبابة. مرّ الوقت ولم يصل شيء من السلاح، كما لم تتحرك أي من القطع العسكرية لحماية شمال العاصمة. بقي جنوب العاصمة مجمّداً، فقد وجد الجائفي، قائد الحرس الجمهوري، نفسه ضمن لعبة معقّدة غير مفهومة، بينما يتلقى سيلاً من الأوامر تطلب منه البقاء في مكانه ونسيان كل ما يجري في صنعاء. في تلك اللحظة وصلت رسالة جوّال إلى تلفون مسؤول يمني رفيع من دبلوماسي غربي في صنعاء، تربطهما علاقة صداقة “لقد تم تحديد القشيبي 2″.
جمع محسن الجنود في الفرقة بعد أن خاضوا مواجهة مرّة وصعبة وقال لهم “اخلعوا الزي العسكري، والبسوا زيّاً مدنيّاً، لقد انتهى الأمر”. غادر المجنّدون، وتبخّرت كل اللجان الشعبية التي كان عمودها الإصلاح. تقول رواية قيادات الإصلاح إنهم أحسوا بأن قراراً قد اتخذ بتصفيتهم، وتدمير التنظيم كلّياً.
في ظهيرة الواحد والعشرين من سبتمبر جاءتني رسالة من شاب كان حتى الفجر ضمن معسكرات المتطوّعين في أرحب. تقول رسالته “أنا الآن في صنعاء، انتهى كل شيء. باعونا عيال القحبة”.
كانت صنعاء تعج بحوالي 60 ألف عسكريّاً ضمن تشكيلاتها العسكرية المختلفة، لكن الذين دافعوا عنها لم يكونوا سوى أولئك الـ 500 فرداً. صحيح إنهم لم ينقذوها لكنهم حفظوا شرف الإنسان اليمني إلى الأبد.
في القصر الرئاسي كان هادي هادئاً، ومبتهجاً، ومعه في الداخل الساسة ووزير دفاعه. قال إن سبب بهجته يعود إلى رؤيته لحكمة اليمنيين وهي تبهر العالم. أما وزير الداخلية، ع. الترب، فقد بقي لوحده في الخارج. رفض الحوثيون التوقيع على الملحق الأمني عصر ذلك اليوم مشترطين محاكمة قتلة الثوّار. أدرك الترب أنه المقصود، وكان عليه أن ينقذ نفسه.
تصرّفت الداخلية على النحو التالي: أمنت البنك المركزي بعدد 70 جندي أمن مركزي. خلال ساعات كان البنك، وحراسته، تحت حصار ينفذه حوالي 300 مسلحاً حوثياً مستخدمين الدبابات التي سيطروا عليها من اللواء 314. المعلومات وصلت لدى قائد الجيش، وزير الدفاع، ورئيس الأركان لكنهما لم يفعلا شيئاً. بدلاً عن ذلك أعادوا التأكيد، عبر بيان رسمي، على أن الجيش لن يغادر ثكناته. كانت رسالة شديدة الصرامة والصراحة تقول للمهاجمين: الجيش يقع خارج خطوط سيركم. اقتحم الحوثيون مقرّ القيادة العامة، ثم حاصروا المالية والداخلية. بالنسبة لرواية وزارة الداخلية فقد انهارت معنويات أفراد الشرطة والأمن كليّاً في تلك الساعات، وبدأوا بالفرار وخلع الزي الأمني. كان الحوثيون يمهلون حرس كل مؤسسة نصف ساعة فقط للهرب.
تقول قيادات وزارة الداخلية في شرحها لما حدث: كان لدينا خياران، إما المواجهة المحسومة سلفاً، أو الفرار وترك كل شيء للفوضى والنهب. كلا الأمرين كارثي، لذلك لجأت الوزارة إلى طريق ثالث “الاتصال بالسيد عبد الملك الحوثي مباشرة وحقن الدماء وحفظ ما بقي من المؤسسات”. ساقت الأقدار، بحسب تعبير مسؤول أمني رفيع المستوى، السيد يحيى المختفي، وهو وكيل محافظة صعدة. ترجاه قادة وزارة الداخلية أن “يشفع لهم” لدى عبد الملك الحوثي، ففعل. في الرابعة من مساء الواحد والعشرين من سبتمبر جاء تعميم من عبد الملك الحوثي يطلب من أتباعه التعاون مع الشرطة واعتبارهم “إخوةً لأنصار الله”. وزير الداخلية، من جهته، أصدر تعميماً موازياً مستخدماً الكلمات التي وردت في تعميم “السيد”، أي اعتبار الحوثيين أصدقاءً للشرطة. وفي تمام الثامنة والنصف مساءً جرى التوقيع على اتفاق السلم والشراكة، الذي سيصفه دبلوماسي غربي رفيع بأنه “لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به”.
بقي الملحق الأمني دون توقيع، فقد كانت رأس وزير الداخلية مطلوباً. كانت خطابات
الحوثي تفصح عن هذه الرغبة المتوحشة تحت لافتة “قتلة الثوّار”. ولهذه القصة جزء خفي، ومرعب..
فعندما تظاهر الحوثيون في صنعاء أصدر هادي تعليماته إلى وزير الداخلية باستخدام الذخيرة الحيّة وضرب المتظاهرين في السيقان والأقدام والمناطق غير المميتة. وكما راوغ وزير الإعلام قبل ذلك فقد فعل وزير الداخلية أمراً مشابهاً سيتذكره التاريخ باعتباره فصلاً فانتازياً شديد الغرابة. ألقى ع. الترب محاضرات في كبار ضباط الداخلية وشرح لهم الطرق الحديثة في مواجهة المعتصمين، ثم أصدر تعميماً خطيّاً بعدم استخدام الذخيرة الحية أياً كانت الاستفزازات. في اليوم التالي للتوقيع كانت شخصية رفيعة من “أنصار الله” تجلس بمواجهة وزير الداخلية وتبلغه بموقف الحوثيين منه، وتنبّهه إلى حقيقة أن فرصه في النجاة أصبحت ضئيلة. لم يتدخل هادي، كالعادة، وبدلاً عن ذلك فقد أبلغ أنصار الله بأن زير الداخلية كان يعمل بخلاف أوامره. لكن الترب، بمساعدة القدر أو الحظ أو كليهما، تذكر التعميم الخطي الذي كان قد كتبه قبل حوالي شهر من تلك اللحظة وقدّم نسخةً منه لرسول السيد عبد الملك.
بعد أيام قليلة أصدر عبد الملك توجيهاً بعدم اعتراض موكب وزير الداخلية، وحذف اسمه من قوائم الممنوعين من السفر. كما وافق على التوقيع على الملحق الأمني.
لدى الحوثيين قائمة ممنوعين من السفر. فعندما أراد وزير الإعلام قبل أسابيع مغادرة اليمن فإن أوراقه بقيت لمدة ثلاثة أيام لدى أنصار الله. بعد ذلك جاءته الموافقة، وتمكّن من مغادرة صنعاء عبر المطار الدولي. سألته شخصياً عمّ إذا كانت
هذه المعلومة صحيحة فقال إنها صحيحة تماماً.
أما وزير الداخلية فردّ على رسالتي بالقول “نعم، طلبتُ موافقة السيد عبد الملك الحوثي على سفري، وعندما حذفوا اسمي من قائمة الممنوعين من السفر غادرت صنعاء”.
كانت الصدمة كبيرة ومدّوية في كل اليمن. أما صداها في السعودية فقد سمِع من خلال كلمات المفكر السياسي الإيراني صادق الحسيني “السعودية قبيلة تنقرض”. ضلل هادي السعودية، وخدعها، وأدخل الحوثيين إلى صنعاء، ثم سلّمهم اليمن كلّها، وها هو يفتح أمامهم أبواب الجنوب. انتقم ل 17 عاما من العبودية بطريقة مجنونة، أحرق كل شيء أمامه وخلفه لكي يطفئ حرائقه الداخلية.
قبل أيام ألقى هادي خطاباً تحدّى فيه الحوثيين، وطالبهم بسرعة مغادرة المُدن. احتار المحللون كثيراً في فهم خطاب هادي. غير أن الأمر لم يكن بحاجة إلى الكثير من التفكير. فقبل خطاب هادي بيوم واحد فقط أوقفت السعودية مبلغ 450 مليون دولاراً كانت معدّة للتحويل إلى اليمن، وكالعادة عبر بنوك نيويورك. هذا المبلغ الضخم هو جزء من التزامات المملكة لليمن منذ ما بعد سقوط عمران. السعودية تعلم أن جحيماً فتح فجأة في حدودها الجنوبيّة، وأن الرئيس اليمني ضللها كثيراً. فبعد سقوط صنعاء، عندما كتبتُ عن 17 عاماً من العبودية، جاءني اتصال من مسؤول سعودي رفيع، كان متحمّساً للمقال، وكان مخذولاً ومنذهلاً. تبادلنا الجمل والكلمات ثم سلم الهاتف لأحد الكتاب المرموقين في صحيفة الحياة اللندنية، السعودية، فكان الأخير يتحدث بمرارة وغضب، وكان يقول لي بحماس إنه يثق بنا، وأن علينا نحن الكتاب اليمنيين الشباب أن نتذكر أنهم معنا. وقلتُ له أني سعيد لأني سأتعرف عليه ككاتب وصحفي مرموق، وإن كان لقاء “تحت الأنقاض”. ويبدو أن هذه الجملة أوجعته، أو أحزنته.
في خطابه مجّد هادي جلالة الملك وقال كلاماً مجانياً عن الحوثيين. أراد أن يقول في الوقت الضائع إن الحوثيين غدروه، وأنه على الدوام لا ينوي شرّاً للمملكة.
بحسب المسؤولين الأمنيين في اليمن فإن التنسيق الأمني اليمني السعودي فيما يخص الملف الحوثي كان عند أعلى مستوى له قبل سقوط عمران بأيام. كانت لقاءات الطرفين، بحسب المعلومات الدقيقة التي وصلتني، تخلص إلى فكرة موحّدة: صنعاء باب المملكة الأمني، وأن سقوطها سيفتح باب الشرور على السعودية. سقطت عمران، فطلبت المملكة توضيحاً من اليمن عمّ حدث، الأمر الذي اقتضى سفر هادي بحقيبة الأكاذيب خاصته. أمام الملك جثا العبد الرئيس وقال كلاماً كثيراً. بحسب المسؤولين الأمنيين الرفيعين في اليمن فإن التنسيق السعودي مع الجهات الأمنية في صنعاء خفت بعد ذلك، ثم تلاشى. وأنه ليس لذلك من سبب سوى أن الرئاسة تسلّمت الدور وبدأت عملية تضليل شاملة للملكة. فقد كانت رواية الرئاسة تعزف على القلق السياسي السعودي: الإخوان المسلمون. وحتى ما قبول سقوط صنعاء فقد سلم السعوديون برواية هادي حول طبيعة الصراع “الحوثي، الإصلاح”. قبلت السعودية الصفقة، بطريقة ما، وغضت الطرف عن عملية اعتقدت أنها تهدف لتقويض حزب الإصلاح، تلك العملية التي سيخرج فيها الحوثيون منتصرين ومنهكين في الآن نفسه، وسيكون هناك اتفاق سلام جديد، وعهد جديد بلا مخاطر!
انتهت عملية تضليل الداخل والخارج بانهيار الجمهورية اليمنية كلّياً. لقد فقد الإنسان اليمني أبسط حقّين طبيعيين يولد بهما ويموت بهما: حريّة السفر، وحرية امتلاك الرأي. Reisefreiheit und Meinungsfreiheit بالتعبير الألماني الدقيق لمعنى أن تكون حرّاً، وأن يكون بلدك جمهورية.
ففي ظهيرة الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 ألقى شاب سلاحه خارج أسوار صنعاء، ودخلها مكروباً وهو يقول “انتهى كل شيء، باعونا عيال ال...”.
اقرأ ايضا: