أخبار الساعة » »

ثورة مضادة أم ثورة تصحيح؟

- د. مراد العزاني

 بعض الناس يعزو الأزمة الجارية والانقلاب ضد مرسي وجماعته في مصر إلى فشل الإخوان في إدارتهم للدولة، وينسبون ذلك الفشل إلى قلة تجربتهم السياسية في الحكم. ولكن بنظرة موضوعية لما يحدث في مصر، وفي ضوء التطورات التي تشهدها الساحة المصرية وسياقاتها التاريخية والسياسية، يمكن أن نسأل الذين يقولون إن الإخوان فشلوا بسبب قلة تجربتهم في الحكم: كيف يفسرون النجاح النسبي الذي حققته تجربة الإخوان في تونس؟
من هذا السؤال نستشف أن فشل الإخوان في مصر لا يمكن عزوه إلى قلة الخبرة السياسية لديهم، وإنما إلى الثقافة الموروثة لدى السياسيين العرب أنفسهم -سلطة ومعارضة- التي دائماً ما تضع السلطة والوصول إليها نصب أعينها عوضاً عن الوطن نفسه!
ثمة أمر هام يمكن استنتاجه من المشهد المصري، وهو أن القوى السياسية الثورية والمعارضة اتخذت خطتين: الخطة (أ) وهي دعم مرسي استحياء في الانتخابات التي تم إجراؤها قبل عام لأنه لم يكن لديها بديل عنه، إذ كان يستحيل حينذاك النكوص عن التغيير الثوري لتقف مع الفلول ضد رجل خرج من رحم الثورة.
غير أنها بعد فوز مرسي اتخذت الخطة (ب) التي بموجبها قررت إفشاله لاعتقادها خاطئة أن نجاحه في إدارة الدولة المصرية سيكون بمثابه انتحار سياسي لها، بدليل أن معظم المواقف التي اتخذتها يصب في ذلك الاتجاه.
فرفضت أي تقارب أو تعاون سياسي مع مرسي، وسعت جاهدة لحصاره وإفشال كل خطوة يتم اتخاذها لإقامة مؤسسات النظام الجديد. فعلى سبيل المثال رفضت دعوة مرسي إلى تشكيل حكومة أو المشاركة فيها، كما رفض حمدين صباحي بعد الانتخابات مباشرة منصب "نائب رئيس الجمهورية" أو "رئاسة الوزراء"، بينما اعتبر بعض من قادتها نفسه أكبر من منصب رئيس الحكومة وأن مكانه الطبيعي في رئاسة الجمهورية.
أخطأ مرسي حينذاك بتعامله مع المعارضة ككتلة واحد وذلك من خلال تبنيه خطابا ساهم في توحيد فصائلها بدلا من محاولة توجيه رسائل مقنعة لبعض فصائلها وبناء تحالفات معها، فبدى أن سياسته إما التحالف مع المعارضة بكل أطيافها، أو إخراجها كلها من عملية التحالف.
عزز ذلك موقف المعارضة في تبنيها سياسة مناهضة قوية لمرسي، وساهم الدعم الذي تلقته من الخارج بقوة في تصلبها ورفضها لأي شراكة أو تسوية سياسية مع النظام.
فشلُ الإخوان في تفكيك تحالف المعارضة وبناء تحالفات جديدة مع بعض أطيافها قد يعزى إلى قلة خبرتهم في الحكم، ومن ناحية أخرى إلى اطمئنانهم إلى أن الشارع معهم، وأن مشاريع المعارضة فقدت المسوغ لحشد الناس وتأليبهم ضدهم.
غير أن الموروث والمخزون الثقافي والأيدولوجي لدى الفصائل السياسية المصرية يجب أن يؤخذ  بعين الاعتبار في ما يتعلق بتحالفاتها وخصوماتها، إذ غالبا ما يرتكز فذلك الموروث على "مبدأ استئصال الآخر لا التعايش معه". وقد ظهر ذلك جلياً في الهتافات التي ترددها المعارضة والمتمثلة في إسقاط حكم الإخوان وليس البرنامج السياسي للرئيس أو شخصه، وفي مطالبتها أيضا برحيل مرسي مع جماعته. وعلى الجانب الآخر كانت هناك هتافات تمثلت في تخوين المعارضة واتهامها بالعمالة.
يستشف من ذلك أن هذا الموروث الأيدولوجي كان حاضرا بقوة في المشهد السياسي المصري وشكل أرضية خصبة ليبلور كل فصيل مواقفه واتجاهاته وآراءه عن الطرف الآخر.
تاريخياً اتسمت العلاقة بين اليساريين والقوميين من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى في مصر بالصدامية، ولقد شابها الكثير من التوترات والتشوهات في عهد الأنظمة السابقة.
فبينما كان الإخوان يقبعون في سجون الأنظمة السابقة ويعانون من أدواتها القمعية، كان اليساريون والقوميون الفصيل المدلل لتلك الأنظمة، بل إنها دفعت بهم وشجعتهم لإنتاج فكر معادٍ وإقصائي لفكر الإخوان ومنهجهم.
وهذا على عكس المشهد التونسي مثلا الذي اتسمت فيه العلاقة بين القوميين واليساريين من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى بطابع الوئام لا المصادمة، إذ إنهم جميعاً كانوا ضحية الإقصاء والتهميش والقمع من الأنظمة المتعاقبة هناك، وتعرضت رموزهم جميعاً للسجن والنفي أيضاً.
فتجربة الملاحقة والإقصاء التي خاضوها معا ساهمت في التقريب بينهم, وساعدتهم على صياغة خطوط ورؤى مشتركة في ما يتعلق بشكل الدولة المستقبلية، وتبني أهداف عامة يسعى الجميع لتحقيقها.
بمعنى آخر، ساهمت تلك التجربة ليس فقط في تعزيز القناعة لديهم بمبدأ التعايش ونبذ الإقصاء للآخر, ولكن أيضا في تعزيز مبدأ التوافق والشراكة الحقيقية في بناء وإدارة دولة تكتنفهم جميعا. ومن ثم لم تحظ بقايا النظام السابق بأي فرصة لتستفرد ببعض من فصائلهم ولتشكل تحالفا ضد النظام الثوري الجديد.
فكانت ثمرة ذلك الائتلاف المشترك، وانتخاب المجلس التأسيسي التونسي الذي لم تستطع المؤامرات في استهدافه حتى باغتيال شكري بلعيد الذي يعتبرمن أهم قادة ذلك التحالف.
أما في مصر فقد حدث العكس، ومما لا شك فيه أن قرار عزل الرئيس مرسي سيترك صدعا قويا بين فصائل الأمس الثورية يصعب بل ويستحيل ترميمه، وسيصب ذلك في مصلحة بقايا النظام السابق التي يمكن أن تستفيد من الخلاف بين تلك الفصائل وتغذيته لتعيد ترتيب صفوفها.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن حجمها قد يمثل نصف الشارع المصري كما أبرزته الانتخابات الأخيرة التي أجريت في ظل مناخ ثوري، فإنها تستطيع الاستئثار بأي عملية سياسية انتخابية في المستقبل.
أتمنى أن ذلك التوصيف للمشهد المصري قد اتسم بطابع الموضوعية إلى حدٍ ما, ولكن يبقى المصطلح الذي يمكن أن نطلقه في توصيف ذلك المشهد ماثلا لإشكالية كبيرة، فهل يمكن توصيف ما يحدث في مصر "بثورة مضادة وانقلاب" أم "بثورة تصحيحية"؟
إذا ما توصل المصريون إلى صياغة عقد جديد ينظم حياتهم السياسية ويحقق مبدأ الشراكة والعدالة ويضمن التداول السلمي للسلطة، فحتماً هي ثورة تصحيحية. ولكن إذا ما أفضت الأمور إلى تعزيز نفوذ العسكر وتسلمهم زمام الأمور إلى ما لا نهاية، فحتماُ ما يحدث في مصر هو ثورة مضادة.
أستطيع أن أجزم أنه في الحالة الأولى يكون المصريون قد اختصروا على أنفسهم المراحل التي مرت بها أوروبا في عام واحد، وأنهم في خطى متسارعة نحو عملية تحول ديمقراطي حقيقية. وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الثورات الأوروبية نجد أن بعضا منها أخذ عقدا من الزمن وأخرى عقدين وزيادة ليتم تصحيحها.
أما الحالة الثانية فتعني رجوع المصريين إلى المربع الأول، ومن ثم كان لزاما علينا أن نعزيهم وننعي معهم التغيير الثوري والتحول الديمقراطي برمته.
 

المصدر : الجزيرة نت

Total time: 0.0299