من حسن حظ الجمهوريتين (العربية اليمنية واليمن الديمقراطي سابقاً) أن معظم رؤسائها كان لهم علاقة - سواء مباشرة أو غير مباشرة - بالثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، وإن كانت هذه العلاقة بدرجات متفاوتة لكلٍ منهم، ومما يحسب لصالح تنظيم الضباط الأحرار أنه أقدم على تسجيل أنقى موقف وطني على الإطلاق حين قرر أن يكون رئيس الجمهورية من خارج التنظيم كدليل واضح على مثالية دوافع التنظيم وخلو أهدافه من كل شوائب المصالح الذاتية، ففي يوم السادس والعشرين أعلن عبدالله السلال –قائد حرس الإمام البدر- قبوله بمنصب رئيس الجمهورية بعد أن اعتذر المناضل حمود الجائفي عن قبوله ذلك.
وبالتأكيد فإن مهمة توطيد دعائم النظام الجمهوري والحفاظ على منجز الثورة الناشئة لا يقل صعوبة عن إقامة الثورة نفسها إن لم يكن أشد في ظل بلد تكاد صخوره أن تتشيع للإمام -حسب وصف الشهيد الزبيري- ناهيك عن الصخور البشرية الخالية من أي وعي بضرورة تغيير الواقع.
ومثلما عرف الرئيس السلال بقائد ما بعد الثورة، فإن القاضي عبدالرحمن الإرياني اشتهر بأنه حكيم الثورة اليمنية لما تمتع به من رجاحة عقل، وعمق معرفة، وطول خبرة أكسبتة قدرة كافية للتعامل مع من حوله سواء قبل الثورة أو بعدها.
أما الرئيس ابراهيم الحمدي له حكاية طريفة مع الثوار،فقد قيل أنه كان من المقرر انضمام ابراهيم الحمدي إلى تنظيم الضباط الأحرار قبل اندلاع الثورة إلا أن قائد التنظيم وقتها الشهيد علي عبدالمغني أرتأى تأجيل انضمام الحمدي نظراً لبعض التحفظات عليه نتيجة للعلاقة القوية بين والد الحمدي وبين الإمام حينها، بالإضافة إلى تولي ابراهيم الحمدي قضاء ذمار نيابة عن والده، وهذا لن يكون إلا بموافقة الإمام حسب تفسيرات البعض حينئذ.
أما في الشطر الأكتوبري من الثورة اليمنية فثمة مواقف ثورية متداولة قام بها معظم رؤساء جمهورية اليمن الديمقراطية إن لم يكن جميعهم ضد الاستعمار البريطاني، غير أنها تفتقر إلى التوثيق ومزيد من التمحيص.
ورغم أهمية بحث العلاقات الثنائية الإيجابية بين الرؤساء وبين الثوار إلا أن الأهم هو استقصاء أبعاد تدهور هذه العلاقة ليس بين الثوار والرؤساء فحسب وانما امتدت هذه المواجهة لتصل إلى قيم الثورة ومقومات ديمومتها.
فبعد أكثر من أربعة عقود من عمرها لا تزال الثورة اليمنية تتعرض لمهددات جمّة ومخاطر كارثية، ليس من دعاة الإمامة "كما يطلق عليهم" وإنما من لدن حماة الثورة " كما يسمون أنفسهم" ولا تتمثل هذه المهددات في إرادة العودة إلى النظام الملكي البائد، أو استدعاء الاستعمار البريطاني مجدداً، بقدر ما هي عمليات ممنهجة في تقويض الغائية الثورية، وتناسي دور صناع الجمهورية، وأفول بصيص الوفاء الذي كان لشهدائها.
إن أكبر ما يهدد الثورة والجمهورية هو نكران أهل الجميل، والرد بأسوأ على من أحسنوا الحسنى وزيادة في حق اليمن والثورة وجيلها "العاق"، وإن أخطر ما ينال الثورة هو النيل من تاريخ الثائرين، وتقزيم أدوارهم النضالية، وتعمد وضعهم على رفوف النسيان، بل وتجيير منجزاتهم واختزالها كرهاً لصالح أقوياء اليوم، ومن ثم أقوياء الغد، وهكذا دواليك حتى يقيض الله ثورة أخرى لإنقاذ الثورة الأولى.
واقعة الثورة لم تكن حادثة جنائية، أو قضية شخصية، أو مشكلة ثأر عابرة، بل كانت قضية وطن.. حاضر بلد.. مستقبل شعب بأكمله.
ومن المؤكد أن غالبية الثوار حينئذ كانوا على الصعيد الشخصي أحسن حالاً ومالاً ووظيفة من بقية أبناء المجتمع، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد رفض الشهيد علي عبدالمغني عرض الإمام البدر بأن يكون مديراً لمكتبه، بل أجّل زواجه مرتين وآل على نفسه أن لا يحتفي بفرحة العمر قبل أن يحتفي كل أبناء الوطن بالعرس الجمهوري العظيم.
وهذا برهان صارخ على عظمة تلك الهامات الشامخة والمتجردة من المصالح الذاتية لأنها تحمل الهم الجمعي الأكبر، ولذلك جاءت التضحية بالدماء والأرواح في سبيل راحة السواد الأعظم من الشعب الذي ظل يرزح تحت نير الجوع ووطأة الجهل وطاحونة المرض.
الشهداء ليسوا بحاجة إلى مقبرة خاصة فقط، وأسرهم لا تنقصها أوسمة بديلة خالية الوفاض، وليس كاف تذييل الخطابات السياسية الهامة بعبارة " المجد والخلود للشهداء" عند كل مناسبة سنوية.
وبالمقابل هم لا يريدون أوسمة مماثلة لأوسمة أبطال روسيا مثلاً (الاتحاد السوفيتي سابقاً) تلك الأوسمة المحملة ببخار الحياة الكريمة وأمزان العيش الرغيد.. تلك الأوسمة التي تأتي قبل الممات مزدانة بكافة الامتيازات الحياتية المجانية بدءً من مجانية المنزل والسيارة وملحقاتهما، ومروراً بمجانية السفر والتنقل وانتهاءً بمجانية فواتير الفنادق والمطاعم وحتى المحلات الخاصة.
لكن "أبطالنا اليمنيون" متواضعون ولا يريدون كل أو بعض هذا، وإنما فقط إيفاؤهم بعض حقهم من التذكير والتكريم الحقيقي، والتوثيق المنصف لأدوارهم الناصعة، ونقل تاريخهم بكل صدق وأمانة للأجيال.
فكم هو محزن أن نجهل تاريخ أعلام الثورة، بل كم هو كارثي أن يظل هؤلاء مجهولون حتى لدى أبنائهم وأسرهم، وكم هو جلل أن نفقد معلومات أساسية عن الثلاثة الثائرين في وجه الاستعمار البريطاني (لبوزة – مدرم – عبّود).
كم هو معيب الاستيلاء القسري على وثائق نادرة بغرض الوأد الأبدي لها، وكم هو مخجل اختطاف جميع الصور الفوتوغرافية لبعض أولئك الشهداء والمناضلين، بل أنّى لنا الحصول على أعلى مراتب "الفنتازيا" لنتخيل كيف تحوّل الشهيد علي عبد المغني من قائد للثورة إلى شهيد بلا قبر لمدة ربع قرن على قيام الثورة!
أليس من الإجحاف طمس مساحة شاسعة من تاريخ الثورة والجمهورية مقابل توفر التاريخ "الإيجابي" لكل فصول وشخوص العهد الإمامي من لدن الإمام الهادي وحتى ما بعد الإمام البدر؟!
ولكم أن تتخيلوا معي مثلاً لو كان الشهيد محمد محمود الزبيري زعيماً لثورة يوليو المصرية، هل كان سيقتل في أحد جبال صعيد مصر؟ وهل كان نجله الوحيد سيضطر إلى بيع منزل والده، واستئجار مسكن آخر، ومن ثم يستجدي مقابلة رئاسية خاطفة؟
بالتأكيد كان سيحظى الزبيري بمكانة رفيعة ولائقة، ولتسابقت مؤسسات الانتاج الإعلامي لعمل أكثر من فيلم ومسلسل تاريخي عن حياته واستشهاده، ولأصبح ورفاقه حديث مستدام على كل الشفاه.
وبالمقابل ماذا لو كان زعيم ثورة يوليو الرئيس جمال عبد الناصر يمنياً؟!! وهنا لن أبدو ساذجاً أكثر مما ينبغي، وسأترك العنان لخيالاتكم المتنوعة!
إن أكبر دليل دامغ على بشاعة الإهمال الرسمي المتعمد لتلك القامات السامقة هو نفاد صبر أبناء وأحفاد المناضلين والشهداء على هذه السياسة الناسفة لما قبلها.
ففي 25/سبتمبر/2008م قرر هؤلاء الأبناء "البررة" وبجهود ذاتية محضة إنشاء الملتقى الوطني الديمقراطي لأبناء الثوار والمناضلين والشهداء اليمنيين "مجد" الذي يتكون من مجلس أعلى برئاسة القاضي أحمد عبدالله الحجري (محافظ محافظة إب) والذي تم اختياره أواخر شهر إبريل الماضي، بالإضافة إلى أمانة عامة يتولاها الشاب النشيط الاستاذ/محمد اسماعيل الشامي، ومجلس شرف، وهيئه استشاريه,وعدة لجان متخصصة.
لقد وجد أبناء الثوار ذاتهم مجبرون على الخروج من شرنقة السكون، ومن عنق زجاجة الصمت، وأدركوا أخيراً أن لا طائل من وراء ذلك الركون الطويل على سلطة قد تكون قاصرة في نفسها ومقصرة مع غيرها حتى مع من كان لهم الفضل القديم في منح الامتيازات الحاضرة لها.
وعقب أن بلغوا سن اليأس من السلطة واستيقنت أنفسهم بالمثل الشهير " ما حكّ جلدك مثل ظفرك" اقتنع الأبناء مؤخراً بعدم الظفر بأي من حقوق آبائهم المناضلين إلا إذا خاضوا معركة جديدة من النضال المتجدد خاصة في ظل ديمقراطية " التناسي" وجمهورية "الأنا".
فكرة الملتقى ترتكز على أساس لملمة ما أمكن من التركة المبعثرة المتمثلة في وثائق الثورة وأدبياتها ووقائعها وذكرياتها حتى يتسنى لنا ديمومة تجسيد مضامين الثورة وأهدافها العظيمة ومبادئها السامية التي تشكل القاعدة الأساسية والمتينة التي ينطلق منها مفهوم الولاء الوطني وشعيرة الانتماء للأرض اليمنية، والشعور بمعاني الهوية الواحدة التي بدأت تخفت في وقتنا الراهن وما زالت آخذة في التضاؤل المفزع ما لم تنبر السلطة القائمة بدورها في تعزيز أواصر القربى الوطنية ليس من خلال نصب اللوحات الباهظة أو رفع الشعارات الجوفاء على غرار " اليمن في جيوبنا"!
وإنما عبر استلهام الدروس المنبثقة من مسيرة الأحرار القدامى، ومسارات النضال الأول، وهذا ما ينشده "ملتقى الأبناء" الذي أخذ على عاتقه مهمة تذكيرنا بالرموز الوطنية بإقامة فعاليات تكريمية متواضعة في مكوناتها، لكنها متعاظمة في مكنوناتها ومدلولاتها الكبيرة، كتكريم أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري، والشهيد القاضي عبدالله الحجري(رئيس الوزراء الأسبق) وقريباً تكريم عدد من المناضلين في محافظتي الضالع وإب، ولعل ما يتميز به الملتقى شموليته على امتداد محافظات الجمهورية اليمنية،
ويسعى الملتقى مستقبلاً إلى تكريم كل رؤساء الجمهوريات اليمنية (شمالها والجنوب) نظراً لإسهاماتهم الثورية والنضالية والوطنية والوحدوية، وحالياً ينوي إصدار سلسلة وثائقية تاريخية تحكي مسيرة الشهداء والمناضلين، ومن المزمع أن يصدر أول كتاب متزامناً مع الذكرى الـ(20) لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية.
ونحن إذ نشيد بهذه البدايات الرائدة للملتقى، ونشدو لهذا الكيان الناشئ، فإننا نشدّ على أيديهم للمضي قدماً باتجاه التوريث النضالي الشاق، يحدونا الأمل بأن يعكسوا صورة مشرقة عمن صنعوا شمس الضحى وسلبوا الفجر من أحضان الدجى.
فلتكونوا أيها الأبناء أهلاً لهذه الثقة وإلا فالصمت خير.